واختَلفُوا هل الانتقالُ مِنْ القِصاصِ إلى العَفوِ على أخذِ الديةِ هو حَقٌّ واجبٌ لوليِّ الدمِ دونَ أنْ يكونَ في ذلكَ خيارٌ للمُقتَصِّ منه؟ أم لا تَثبتُ الديَةُ إلا بتَراضي الفَريقينِ -أعنِي الوليَّ والقاتلَ- وأنه إذا لم يُرِدِ المُقتصُّ منه أنْ يُؤديَ الديَةَ لم يَكنْ لوليِّ الدمِ إلا القِصاصُ مُطلقًا أو العَفوُ؟
فقالَ مالِكٌ: لا يَجبُ للوليِّ إلا أنْ يَقتصَّ أو يَعفُو عن غيرِ دِيةٍ، إلا أنْ يَرضَى بإعطاءِ الديةِ القاتِلُ، وهي رِوايةُ ابنِ القاسِمِ عنه، وبهِ قالَ أبو حَنيفةَ والثوريُّ والأوزاعيُّ وجَماعةٌ.
وقالَ الشافِعيُّ وأحمدُ وأبو ثَورٍ وداودُ وأكثَرُ فُقهاءِ المَدينةِ مِنْ أصحابِ مالكٍ وغيرِه: وليُّ الدمِ بالخِيارِ إنْ شاءَ اقتصَّ وإنْ شاءَ أخَذَ الديةَ، رَضيَ القاتلُ أو لم يَرْضَ، ورَوى ذلكَ أشهَبُ عن مالكٍ، إلا أنَّ المَشهورَ عنه هي الرِّوايةُ الأُولى.
فعُمدةُ مالكٍ في الرِّوايةِ المَشهورةِ حَديثُ أنسِ بنِ مالكٍ في قِصةِ سِنِّ الرُّبيِّعِ أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ قالَ:«كِتابُ اللهِ القِصاصُ»(١)، فعُلِمَ بدَليلِ الخِطابِ أنه ليسَ له إلا القصاصُ.
وعُمدةُ الفَريقِ الثاني حَديثُ أبي هُريرةَ الثابتِ:«مَنْ قُتلَ له قَتيلٌ فهو بخَيرِ النَّظرينِ: بينَ أنْ يَأخذَ الدِّيةَ وبينَ أنْ يَعفوَ»، هُما حَديثانِ مُتفَقٌ على صِحتِهما، لكنَّ الأولَ ضَعيفُ الدلالةِ في أنه ليسَ له إلا القِصاصُ، والثاني نَصٌّ في أنَّ له الخِيارَ.