للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدُّنيا على مَراسمِ الشَّريعةِ تَجرِي، فهي المُتبَعُ، والإمامُ في جَميعِ مَجارِي الأحكامِ والرأيُ يَجبُ أنْ يكونَ على مُقتضَى الشرعِ؛ فإنَّ الذي لا يَقتضيهِ الشَّرعُ لا مُعوَّلَ عليهِ …

وسِرُّ الإمامةِ استِتباعُ الآراءِ، وجَمعُها على رأيٍ صائبٍ، ومِن ضَرورةِ ذلكَ استِقلالُ الإمامِ، ثم هو مَحثوثٌ على استِفادةِ مَزايا القَرائحِ وتَلقِّي الفَوائدِ والزوائدِ منها، فإنَّ في كلِّ عَقلٍ مِيزةً، ولكنَّ اختِلافَ الآراءِ مَفسدةٌ لإمضاءِ الأمورِ، فإذا بحَثَ عن الآراءِ إمامٌ مُجتهِدٌ وعرَضَها على عِلمِه الغَزيرِ ونقَدَها بالسبْرِ والفِكرِ الأصوَبِ مِنْ وُجوهِ الرأيِ كانَ جالبًا إلى المُسلمينَ ثَمراتِ العُقولِ، ودافِعًا عنهم غائِلةَ التبايُنِ والاختِلافِ، فكأنَّ المُسلمينَ يَتحِدونَ بنَظرِ الإمامِ وحُسنِ تَدبيرِه وفَحصِه وتَنقيرِه، ولا بُدَّ على كل حالٍّ مِنْ كَونِ الإمامِ مَتبوعًا غيرَ تابعٍ، ولو لم يَكنْ مُجتهِدًا في دِينِ اللهِ لَلَزمَه تقليدُ العُلماءِ واتِّباعُهم وارتِقابُ أمرِهم ونهيِهم وإثباتِهم ونَفيِهم، وهذا يُناقِضُ مَنصبَ الإمامةِ ومَرتبةَ الزَّعامةِ (١).

وقالَ الإمامُ القُرطبيُّ : أنْ يكونَ -أي الإمامُ- ممَّن يَصلحُ أنْ يكونَ قاضِيًا مِنْ قُضاةِ المُسلمينَ مُجتهِدًا لا يَحتاجُ إلى غيرِه في الاستِفتاءِ في الحَوادثِ، وهذا مُتفَقٌ عليهِ (٢).

وقالَ الإمامُ الشاطِبيُّ : إنَّ العُلماءَ نَقَلوا الاتِّفاقَ على أنَّ الإمامةَ الكُبرى لا تَنعقدُ إلا لمَن نالَ رُتبةَ الاجتِهادِ والفتوَى في علومِ الشَّرعِ، كما


(١) «غياث الأمم» ص (٢٦٠، ٢٦٢).
(٢) «تفسير القرطبي» (١/ ٢٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>