للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالَ الإمامُ ابنُ عبدِ البَرِّ : وأما جَماعةُ أهلِ السُّنةِ وأئمَّتُهم فقالوا: هذا هو الاختيارُ، أنْ يكونَ الإمامُ فاضِلًا عالِمًا عَدلًا مُحسِنًا قَويًّا على القيامِ كما يَلزمُه في الإمامةِ (١).

وقالَ الإمامُ الجُوَينيُّ : فأما العِلمُ فالشَّرطُ أنْ يكونَ الإمامُ مُجتهِدًا بالغًا مَبلغَ المُجتهِدينَ مُستجمِعًا صِفاتِ المُفتينَ، ولم يُؤثَرْ في اشتِراطِ ذلكَ خِلافٌ، والدليلُ عليهِ أنَّ أمورَ مُعظمِ الدِّينِ تَتعلقُ بالأئمَّةِ، فأما ما يَختصُّ بالوُلاةِ وذَوِي الأمرِ فلا شَكَّ في ارتِباطِه بالإمامِ، وأما ما عَداهُ مِنْ أحكامِ الشَّرعِ فقدْ يَتعلقُ به مِنْ جِهةِ انتدابِه للأمرِ بالمَعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ، فلو لم يَكنِ الإمامُ مُستقِلًّا بعِلمِ الشَّريعةِ لَاحتاجَ إلى مُراجَعةِ العُلماءِ في تَفاصيلِ الوقائعِ، وذلكَ يُشتِّتُ رأيَه ويُخرجُه عن رُتبةِ الاستقلالِ.

ولو قيلَ: «إنه يُراجِعُ المُفتي مُراجَعةَ آحادِ الناسِ المُفتينَ» لَكانَ ذلكَ مُحالًا؛ فإنَّ الوَقائعَ التي تُرفعُ إلى الإمامِ في الخُطوبِ الجِسامِ والأمورِ العِظامِ لا تَتناهَى كَثرةً؛ إذ هو شَرفُ العالمينَ ومَطمحُ أعيُنِ المُسلمينَ، وقد لا يَجدُ عندَ رفعِ واقِعةٍ إليه أعلَمَ عُلماءِ القُطرِ والناحِيةِ، فيَتردَّدُ ويَتبلَّدُ ويَبطلُ أثَرُه في مَنصبِ الاستقلالِ، ولو جازَ ذلكَ لَساغَ أنْ لا يكونَ الإمامُ ذا كِفايةٍ واستقلالٍ بنَفسِه ثم يُراجعَ الكُفاةَ ويَستشيرُ ذَوِي الأحلامِ والدُّهاةِ، وهذا لا قائِلَ به.

فإذا كانَتِ الإمامةُ زَعامةَ الدِّينِ والدُّنيا ووجَبَ استِقلالُه بنَفسِه في تَدبيرِ الأمورِ الدُّنيويةِ، فكذلكَ يَجبُ استِقلالُه بنَفسِه في الأمورِ الدِّينيةِ، فإنَّ أمورَ


(١) «الاستذكار» (٥/ ١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>