للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالَ الحَنفيةُ: لو طلَب قَومٌ من أهلِ الحَربِ الصُّلحَ على شَرطِ أنَّ المُسلِمينَ إنِ اتَّخذوا مِصرًا في أرضِهم لم يَمنَعوهم من أنْ يُحدِثوا فيه بِيعةً أو كَنيسةً، وأنْ يُظهِروا فيه بَيعَ الخَمرِ والخِنزيرِ فلا يَنبَغي للمُسلِمينَ أنْ يُصالِحوهم على ذلك؛ لأنَّ هذا في مَعنى إعطاءِ الدَّنيَّةِ في الدِّينِ، والتِزامِ ما يَرجِعُ إلى الاستِخفافِ بالمُسلِمينَ، فلا يَجوزُ المَصيرُ إليه إلا عندَ تَحقُّقِ الحاجةِ والضَّرورةِ.

فإنْ أعطاهم الإمامُ على هذا عَهدًا؛ فإنَّه لا يَنبَغي له أنْ يَفيَ بهذا الشَّرطِ؛ لأنَّه مُخالِفٌ لحُكمِ الشَّرعِ فقالَ رَسولُ اللهِ : «كلُّ شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ تَعالى فهو باطِلٌ»، والأصلُ فيه ما رُوي أنَّ رَسولَ اللهِ صالَحَ أهلَ مَكةَ يَومَ الحُدَيبيةِ على أنْ يَرُدَّ عليهم مَنْ جاءَ منهم مُسلمًا، ثم نسَخَ اللهُ تَعالى هذا الشَّرطَ بقَولِه: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ فصار هذا أصلًا أنَّ الصُّلحَ متى وقَعَ على شُروطٍ منها الجائِزُ الذي يُمكِنُ الوَفاءُ به، ومنها الفاسِدُ الذي لا يُمكِنُ الوَفاءُ به؛ فإنَّ الإمامَ يَنْظُرُ إلى الجائِزِ فيُجيزُه، وإلى الفاسِدِ فيُبطِلُه. ألَا تَرى أنَّهم لو شرَطوا في الصُّلحِ إظهارَ الزِّنا واستِئجارَ الزَّواني عَلانيةً، لا يَجوزُ الوَفاءُ لهم بهذا الشَّرطِ، بل يُقامُ الحَدُّ على مَنْ يَثبُتُ عليه الزِّنا منهم، فكذلك ما سبَقَ (١).

وقالَ المالِكيةُ: يُشترطُ في عَقدِ الهُدنةِ أنْ يَخلوَ من شَرطٍ فاسِدٍ وإلا لم يَجزْ:


(١) «شرح السير الكبير» (٤/ ١٥٤٧، ١٥٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>