للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا دَليلٌ واضِحٌ على غَلبةِ الظَّنِّ بالهَلاكِ؛ فإنَّ الرَّسولَ أرشَد عَوفَ بنَ عَفراءَ إلى أنَّ الذي يُضحِكُ الرَّبَّ هو أنْ يَغمِسَ يَدَه في العَدوِّ حاسِرًا، أي: بلا دِرعٍ ولا شَيءٍ يَقيه ضَربةَ الأعداءِ، فنزَعَ عَوفٌ دِرعًا كانَت عليه وقاتَلَ حتى قُتِلَ، ولا شَكَّ أنَّه يَغلِبُ على الظَّنِّ قَطعًا أنَّ الرَّجلَ إذا أرادَ أنْ يُقاتِلَ جَمعًا كَثيرًا من الأعداءِ بغيرِ دِرعٍ لا شَكَّ أنَّ الجَزمَ بهَلاكِه مُحقَّقٌ إلا أنْ يَشاءَ اللهُ، ولكنَّ الحُكمَ في هذه المَسألةِ على غَلبةِ الظَّنِّ.

وعن مُحمدِ بنِ سِيرينَ : أنَّ المُسلِمينَ انتَهَوْا إلى حائِطٍ قد أُغلِقَ بابُه فيه رِجالٌ من المُشرِكينَ، فجلَسَ البَراءُ بنُ مَالِكٍ على تُرسٍ فقالَ: ارفَعوني برِماحِكم فألقُونِي إليهم. فرَفَعوه برِماحِهم فألقَوْه من وَراءِ الحائِطِ، فأدرَكوه قد قتَلَ منهم عَشرةً (١).

ففي قِصةِ إلقاءِ البَراءِ بنِ مالِكٍ من فَوقِ الحِصنِ دَليلٌ على عَدمِ اعتِراضِ الصَّحابةِ على هذا النَّوعِ من العَمليَّاتِ؛ فإنَّ البَراءَ حُملَ في التُّرسِ وأُلقيَ من فَوقِ الحِصنِ على العَدوِّ، ومَعلومٌ أنَّ الإلقاءَ وَحدَه من فَوقِ الحِصنِ رُبَّما يُسبِّبُ الهَلاكَ، فكيف إذا كانَ في الحِصنِ جُملةٌ من الجُندِ وقد تأهَّبوا وتَسلَّحوا؟ وفِعلُ البَراءِ هذا لا يُساوِرُ مَنْ سمَّعَ به الشَّكُّ أنَّ فاعِلَه سيَهلِكُ إمَّا من إلقائِه أو من الجُندِ الذين تَأهَّبوا له، ورَغمَ ذلك لم يعتَرِضْ أميرُ الجَيشِ ولا أحَدٌ من الصَّحابةِ على ذلك رَغمَ غَلبةِ الظَّنِّ بهَلاكِه.


(١) رواه البيهقي في «الكبرى» (١٧٧٠٠) باب: من تبَرعَ بالتَّعرضِّ للقَتلِ رجاءَ إِحدى الحُسْنَيينِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>