ويَحتملُ أنْ يُفرِّقَ بينَ ما إذا كانَتِ الضَّرورةُ مُستمرَّةً، وبينَ ما إذا كانَتْ مَرجوَّةَ الزَّوالِ، فما كانَتْ مُستمرةً كحَالةِ الأعرابِيِّ الذي سألَ رَسولَ اللهِ ﷺ جازَ الشِّبعُ؛ لأنه إذا اقتَصرَ على سَدِّ الرَّمقِ عادَتِ الضَّرورةُ إليه عن قُربٍ، ولا يَتمكنُ مِنْ البُعدِ عن المَيتةِ مَخافةَ الضَّرورةِ المُستقبَلةِ ويُفضِي إلى ضَعفِ بَدنِه، ورُبما أدَّى ذلكَ إلى تَلفِه، بخِلافِ التي ليسَتْ مُستمرةً؛ فإنه يَرجُو الغِنى عنها بما يَحلُّ له، واللهُ أعلَمُ.
إذا ثبَتَ هذا فإنَّ الضَّرورةَ المُبيحةَ هي التي يَخافُ التَّلفَ بها إنْ ترَكَ الأكلَ، قالَ أحمَدُ: إذا كانَ يَخشَى على نَفسِه، سَواءٌ كانَ مِنْ جُوعٍ، أو يَخافُ إنْ ترَكَ الأكلَ عجَزَ عن المَشيِ وانقَطعَ عن الرِّفقةِ فهلَكَ، أو يَعجزُ عن الرُّكوبِ فيَهلكَ، ولا يَتقيَّدُ ذلكَ بزَمنٍ مَحصورٍ.
فَصلٌ: وهل يَجبُ الأكلُ مِنْ المَتيةِ على المُضطرِّ؟ فيهِ وَجهانِ:
أحَدُهما: يَجبُ، وهو قَولُ مَسروقٍ وأحَدُ الوَجهينِ لأصحابِ الشافِعيِّ، قالَ الأثرَمُ: سُئلَ أبو عَبدِ اللهِ عن المُضطرِّ يَجدُ المَيتةَ ولم يَأكلْ، فذكَرَ قَولَ مَسروقٍ:«مَنْ اضطُرَّ فلمْ يَأكلْ ولم يُشربْ فماتَ دخَلَ النارَ»، وهذا اختِيارُ ابنِ حامِدٍ؛ وذلكَ لقَولِ اللهِ تعالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وتَركُ الأكلِ مع إمكانِه في هذا الحالِ إلقاءٌ بيَدِه إلى التَّهلكةِ، وقالَ اللهُ تعالَى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩)﴾ [النساء: ٢٩]، ولأنه قادِرٌ على إحياءِ نَفسِه بما أحَلَّه اللهُ له، فلَزمَه كما لو كانَ معه طَعامٌ حَلالٌ.