للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي أنكَرَه مَنْ ألحَدَ في أَسمائِه، وكفَرَ بسَوابغِ نَعمائِه، فقالَ -وقَولُه الحَقُّ ووَعدُه الصِّدقُ-: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩)[النحل: ٣٨، ٣٩] وهذه الآيةُ ممَّا تَضمَّنَه القُرآنُ الكريمُ من الأدِلةِ البُرهانيةِ على صِحةِ البَعثِ.

ووَجهُ البُرهانِ المُنفِكِّ من هذه الآيةِ التي لا يَقدُرُها حَقَّ قَدرِها إلا العالِمونَ، ولا يَنتبِهُ لغامِضِ سِرِّها إلا المُستبصِرونَ، أنَّ اختِلافَ الناسِ في الحَقِّ لا يُوجِبُ اختِلافَ الحَقِّ في نَفسِه وإنَّما تَختلِفُ الطُّرقُ المُوصِّلةُ إليه، والقياساتُ المُركَّبةُ عليه، والحَقُّ في نَفسِه واحِدٌ.

فلمَّا ثبَتَ أنَّ ههنا حَقيقةً مَوجودةً لا مَحالةَ، وكانَ لا سَبيلَ لنا في حَياتِنا هذه إلى الوُقوفِ عليها وُقوفًا يُوجِبُ لنا الائتِلافَ، ويَرفعُ عنَّا الاختِلافَ، إذْ كانَ الاختِلافُ مَركوزًا في فِطَرِنا، مَطبوعًا في خِلَقِنا، وكانَ لا يُمكِنُ ارتِفاعُه وزَوالُه، إلا بارتِفاعِ هذه الخِلقةِ، ونَقلِنا إلى جِبلَّةٍ غيرِ هذه الجِبلَّةِ، صَحَّ ضَرورةً أنَّ لنا حَياةً أُخرى غيرَ هذه الحياةِ فيها يَرتفعُ الخِلافُ والعِنادُ وتَزولُ من صُدورِنا الضَّغائنُ الكامِنةُ، والأَحقادُ، وهذه هي الحالُ التي وعَدَنا اللهُ تَعالى بالمَصيرِ إليها فقالَ تَعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧]. ولا بدَّ من كَونِ ذلك باضطِرارٍ، إذْ كانَ وُجودُ الاختِلافِ يَقتَضي وُجودَ الائتِلافِ؛ لأنَّه ضَربٌ ونَوعٌ من المُضافِ، وكانَ لا بُدَّ من حَقيقةٍ، وإنْ لم نَقُلْ ذلك صِرْنا إلى مَذهبِ السُّوفِسطائيةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>