الارتِضاعِ مِنْ الثديِ؛ فإنَّ العرَبَ تقولُ:«يَتيمُ راضِعٌ» وإنْ كانَ يرضعُ بلَبنِ الشاةِ والبقرِ، ولا على فِعلِ الارتضاعِ منها؛ بدَليلِ أنه لو ارتَضعَ الصبيُّ منها وهي نائمةٌ يُسمَّى ذلك رَضاعًا حتَّى يُحرِّمُ، ويقالَ أيضًا:«أُرضعَ هذا الصبيُّ بلَبنِ هذه الميتةِ» كما يُقالَ: «أُرضعَ بلَبنِ الحيَّةِ»، وقولُه:«الرَّضاعةُ مِنْ المَجاعةِ» وقَولُه: «الرَّضاعُ ما أنبَتَ اللحمَ وأنشَزَ العَظمَ» وقَولُه «الرَّضاعُ ما فتَقَ الأمعاءَ»، ولبنُ المَيتةِ يَدفعُ الجُوعَ ويُنبتُ اللحمَ ويُنشزُ العَظمَ ويَفتقُ الأمعاءَ، فيُوجِبُ الحرمةَ، ولأنَّ اللبنَ كانَ مُحرِّمًا في حالِ الحياةِ، والعارضُ هو المَوتُ واللبنُ لا يَموتُ كالبيضةِ، كذا رُويَ عن عُمرَ ﵁ أنه قالَ:«اللَّبنُ لا يَموتُ»، ولأنَّ المَوتَ يَحلُّ مَحلَّ الحَياةِ، ولا حياةَ في اللبنِ، ألَا تَرى أنها لم تَتألَّمْ بأخذِه في حالِ حَياتِها، والحَيوانُ يَتألمُ بأخذِ ما فيه حَياةٌ مِنْ لَحمِه وسائرِ أعضائِه، وإذا لم يَكنْ فيه حياةٌ كانَ حالُه بعدَ موتِ المَرأةِ كحالِه قبلَ مَوتِها، وقبلَ مَوتِها مُحرِّمٌ، كذا بعدَه.
ولو سلَّمْنا بحُرمةِ اللبنِ بالموتِ فبالحُرمةِ لا يَخرجُ مِنْ أنْ يكونَ مُغذِّيًا، ألَا تَرى أنَّ لحمَ الميتةِ مُغَذٍّ، فكذلكَ لبنُها.
ولأنه لا فارِقَ بينَ شُربِه في حياتِها وموتِها إلا الحَياةُ والمَوتُ أو النَّجاسةُ، وهذا لا أثَرَ له؛ فإنَّ اللبنَ لا يَموتُ، والنجاسةُ لا تمنَعُ، كما لو حلَبَ في وِعاءٍ نَجسٍ، ولأنه لو حُلبَ منها في حياتِها فشَربَه بعدَ موتِها لَنشَرَ الحُرمةَ، وبقاؤُه في ثَديِها لا يَمنعُ ثبوتَ الحُرمةِ؛ لأنَّ ثَديَها لا يَزيدُ على