للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقالَ الإمامُ ابنُ قُدامةَ : ولو حَلَبتِ المَرأةُ لبنَها في إناءٍ ثمَّ ماتَتْ فشَربَه صَبيٌّ نشَرَ الحُرمةَ في قَولِ كلِّ مَنْ جعَلَ الوَجورَ مُحرِّمًا، وبه قالَ أبو ثَورٍ والشافِعيُّ وأصحابُ الرأيِ وغيرُهم؛ وذلكَ لأنه لبنُ امرأةٍ في حَياتِها، فأشبَهَ ما لو شَربَه وهي في الحياةِ (١).

إلا أنَّ الفُقهاءَ اختَلفُوا فيما لو ارتَضعَ صَبيٌّ مِنْ امرأةٍ مَيتةٍ أو أُخذَ اللَّبنُ منها وهي مَيتةٌ وشَربَه الصبيُّ بأنْ أُوجِرَ في فَمِه، هل تَثبتُ به الحُرمةُ أم لا؟

فذهَبَ الشافِعيةُ وبعضُ الحَنابلةِ إلى أنه يُشترطُ أنْ تَكونَ المُرضعُ حيَّةً حياةً مُستقرةً، فإذا ارتَضعَ المَولودُ مِنْ لبنِ المَيتةِ الحاصلِ مِنْ ثَديها بعدَ موتِها لم يَثبتْ به التَّحريمُ؛ لقَولِ النبيِّ : «الحَرامُ لا يُحرِّمُ الحَلالَ»، وهذا اللبنُ مُحرِّمٌ لنَجاسةِ عينِه، فلَم يَثبتْ به تَحريمُ ما كانَ حَلالًا مِنْ قبلِه، ولأنَّ ما تَعلَّقَ به تَحريمُ النكاحِ يَنتفي مِنْ حُدوثِه بعدَ المَوتِ كالنكاحِ، ولأنَّ الرضاعَ ثبَّتَ تَحريمَ المُصاهرةِ كالوطءِ بشُبهةٍ، فلمَّا كانَ الموتُ مانعًا مِنْ ثُبوتِ التحريمِ بالوطءِ -لأنه لو وَطئَ المَيتةَ بعدَ مَوتِها مُعتقدًا أنها في الحَياةِ لم يَثبتْ بوَطئِه التحريمُ- كذلكَ ارتِضاعُ لَبنِ الميتةِ.

وتَحريرُه أنَّ ما ثبَتَ به التَّحريمُ إذا اتَّصلَ بحَياتِها زالَ عنهُ التحريمُ إذا اتَّصلَ بمَوتِها كالوَطءِ، ولأنَّ تَحريمَ الرَّضاعِ مُتعلقٌ بانفِصالِه مِنْ ثَدي الأمِّ ووُصولِه إلى جَوفِ الوَلدِ، فلمَّا كانَ وصولُ اللَّبنِ إلى الولدِ بعدَ موتِها مانعًا


(١) «المغني» (٨/ ١٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>