للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= وهذا مُقتضَى تَبويبِ البُخاريِّ؛ فإنَّه قالَ في صَحيحِه: «بابٌ: الطَّلاقُ في الإغلاقِ والكُرهِ والسَّكرانِ والمَجنونِ». يُفرّقُ بَينَ الطَّلاقِ في الإغلاقِ وبيْنَ هذهِ الوُجوهِ، وهو أيضًا مُقتَضَى كلامِ الشَّافعيِّ؛ فإنَّه يُسمِّي نَذرَ اللَّجَاجِ والغَضبِ يَمينَ الغَلَقِ ونَذرَ الغَلقِ، هذا اللَّفظُ يُريدُ بهِ نَذرَ الغَضبِ، وهوَ قَولُ غَيرِ واحِدٍ مِنْ أئِمةِ اللُّغةِ، والقَولُ بمُوجَبِه هوَ مُقتضَى الكتابِ والسَّنةِ وأقوالِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأئمَّةِ الفُقهاءِ، ومُقتضَى القياسِ الصَّحيحِ والاعتِبارِ وأُصولِ الشَّريعةِ.
أمَّا الكتابُ، فمِن وُجوهٍ:
أحدُها: قَولُه تعالَى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥]. عنِ ابنِ عبَّاسٍ قالَ: «لَغوُ اليَمينِ أنْ تَحلِفَ وأنتَ غَضبانُ».
وعَن طاووسٍ قالَ: «كُلُّ يَمينٍ حَلَفَ عليها رَجلٌ وهوَ غَضبانُ فلا كَفَّارةَ عَليهِ فيها، لقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾.
وهذا أحدُ الأقوالِ في مَذهَبِ مالكٍ؛ أنَّ لَغوَ اليَمينِ هو اليَمينُ في الغَضبِ، وهذا اختِيارُ أجلِّ المالكيَّةِ وأفضَلِهم على الإطلاقِ وهو القاضِي إسماعِيلُ بنُ إسحاقَ، فإنَّه ذهَبَ إلى أنَّ الغَضبانَ لا تَنعقِدُ يَمينُه.
ولا تَنافيَ بيْنَ هذا القَولِ وبيْنَ قَولِ ابنِ عبَّاسٍ وعائِشةَ: «إنَّ لَغوَ اليَمينِ هوَ قولُ الرَّجلِ: لا واللهِ وبَلَى واللهِ». وقولُ عائِشةَ وغيرِها أيضًا: «إنَّه يَمينُ الرَّجلِ على الشَّيءِ يَعتقِدُه كما حلَفَ عليهِ، فيَتبيَّنُ بخِلافِه»، فإنَّ الجَميعَ مِنْ لَغوِ اليمينِ، والَّذي فسَّرَ لغوَ اليَمينِ بأنَّها: يَمينُ الغَضبِ يقولُ بأنَّ النَّوعَينِ الآخرَينِ مِنَ اللَّغوِ.
وهذا هو الصَّحيحُ، فإنَّ اللهَ سُبحانَه جعَلَ لغوَ اليَمينِ مُقابِلًا لكَسبِ القَلبِ، ومَعلومٌ أنَّ الغَضبانَ والحالِفَ على الشَّيءِ يَظنُّهُ كما حَلَفَ عليهِ، والقائِل: «لا واللهِ، وبلى واللهِ» -مِنْ غَيرِ عقدِ اليَمينِ- لم يَكسبْ قَلبُه عقْدَ اليَمينِ ولا قصْدَها، واللهُ سبحانَه قدْ رفَعَ المُؤاخَذةَ بلَفظٍ جرَى على اللِّسانِ لَم يَكسبْهُ القَلبُ ولم يَقصِدْه، فلا تَجوزُ المُؤاخَذةُ بما رفَعَ اللهُ المُؤاخَذةَ بهِ، بلْ قدْ يُقالُ: لَغوُ الغَضبانِ أظهَرُ مِنْ لَغوِ القِسمَينِ الأخيرَينِ. =

<<  <  ج: ص:  >  >>