للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا المُوافِقُ عِندَنا لِمَا مرَّ في المَدهوشِ، لكنْ يَرِدُ عَليهِ أنَّا لم نَعتبِرْ أقوالَ المَعتوهِ معَ أنَّه لا يَلزمُ فيهِ أنْ يَصلَ إلى حالةٍ لا يَعلمُ فيها ما يَقولُ ولا يُريدُه.

وقَد يُجابُ بأنَّ المَعتوهَ لمَّا كانَ مُستمِرًّا على حالةٍ واحدةٍ يُمكنُ ضبْطُها اعتُبِرَتْ فيهِ، واكتُفِيَ فيهِ بمُجرَّدِ نقْصِ العَقلِ، بخِلافِ الغَضبِ؛ فإنَّهُ عارِضٌ في بعضِ الأحوالِ، لكنْ يَرِدُ عليهِ الدَّهشُ فإنَّه كذلكَ.

والَّذي يَظهَرُ لي أنَّ كُلًّا مِنَ المَدهوشِ والغَضبانِ لا يَلزمُ فيهِ أنْ يَكونَ بحَيثُ لا يَعلمُ ما يَقولُ، بل يُكتَفَى فيهِ بغَلبةِ الهذَيانِ واختِلاطِ الجَدِّ بالهَزلِ، كما هوَ المُفتَى بهِ في السَّكرانِ على ما مرَّ، ولا يُنافِيهِ تَعريفُ الدَّهشِ بذَهابِ العَقلِ؛ فإنَّ الجُنونَ فُنونٌ، ولذا فسَّرَه في «البَحر» باختِلالِ العَقلِ، وأدخَلَ فيهِ العَتَهَ والبرسامَ والإغماءَ والدَّهشَ، ويُؤيِّدُه ما قُلنا قولُ بَعضِهِم: العاقِلُ مَنْ يَستَقيمُ كَلامُه وأفعالُه إلَّا نادِرًا، والمَجنونُ ضِدُّهُ.

وأيضًا فإنَّ بعضَ المَجانينِ يَعرفُ ما يَقولُ ويُريدُه، ويَذكُرُ ما يَشهَدُ الجاهِلُ بهِ بأنَّه عاقِلٌ، ثمَّ يَظهَرُ مِنهُ في مَجلِسِه ما يُنافيهِ، فإذا كانَ المَجنونُ حَقيقةً قدْ يَعرِفُ ما يَقولُ ويَقصِدُه، فغَيرُه بالأَولَى، فالَّذي يَنبغي التَّعويلُ عليهِ في المَدهوشِ ونَحوِه إناطَةُ الحُكمِ بغَلبةِ الخَللِ في أقوالِهِ وأفعالِهِ الخارِجةِ عَنْ عَادتِه، وكذا يُقالُ فيمَن اختَّلَ عَقلُه لكِبَرٍ أو لمَرضٍ أو لمُصيبةٍ فاجأَتْه، فما دامَ في حالِ غَلبةِ الخلَلِ في الأقوالِ والأفعالِ لا تُعتبَرُ أقوالُهُ وإنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>