للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ كُلِّ يَدٍ عندَ خوفِ فِتنةٍ، وكذا عندَ الأمنِ مِنْ الفِتنةِ مِنْ غيرِ شَهوةٍ؛ لأنَّ النظرَ مَظنَّةٌ للفِتنةِ ومُحرِّكٌ للشَّهوةِ، قالَ تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور: ٣٠]، واللَّائقُ بمَحاسِنِ الشَّريعةِ سَدُّ البابِ والإعراضُ عن تَفاصيلِ الأحوالِ، كالخَلوةِ بالأجنبيةِ.

ولقولِ النبيِّ لعَليٍّ: «يا عليُّ لا تُتبِعْ النَّظرةَ النَّظرةَ، فإنَّ لكَ الأُولى وليسَتْ لكَ الآخِرةُ» (١)، ومعنَى «لا تُتبِعْ النَّظرةَ النَّظرةَ» أي: لا تَجعلْ نَظرتَكَ إلى الأجنَبيةِ تابِعةً لنظرَتِكَ الأُولى الَّتي تقَعُ بَغتةً، وليسَتْ لكَ النَّظرةُ الآخِرةُ؛ لأنها تكونُ عن قَصدٍ واختِيارٍ فتأثَمُ بها أو تُعاقَبُ.

وعن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: «سَألْتُ رسولَ اللهِ عن نَظرِ الفُجاءةِ فأمَرَني أنْ أَصرِفَ بَصرِي» (٢)، فلمَّا كانَتِ النَّظرةُ الثانيةُ حِرامًا لأنها عنِ اختِيارٍ خُولِفَ بينَ حُكمِها وحُكمِ ما قبلَها إذا كانَتْ بغيرِ اختِيارٍ، دَلَّ ذلكَ على أنه ليسَ لأحدٍ أنْ يَنظرَ إلى وَجهِ امرأةٍ إلَّا أنْ يكونَ بينَها وبينَه مِنْ النِّكاحِ أو الحُرمةِ.

ولأنَّ في إباحةِ النَّظرِ إلى المرأةِ إذا أرادَ تَزويجَها دَليلًا على التَّحريمِ عندَ عدمِ ذلكَ؛ إذ لو كانَ مُباحًا على الإطلاقِ فمَا وَجهُ التَّخصيصِ لهذهِ (٣).


(١) رواه أبو داود (٢١٤٩)، والترمذي (٢٧٧٧)، وأحمد (٢٣٠٢٤).
(٢) رواه مسلم (٢١٥٩).
(٣) «البيان» (٩/ ١٢٥، ١٢٦)، و «النجم الوهاج» (٧/ ١٩)، و «مغني المحتاج» (٤/ ٢١٧)، و «تحفة المحتاج» (٨/ ٤٨٦، ٤٨٧)، و «نهاية المحتاج» (٦/ ٢١٦، ٢١٧)، و «الديباج» (٣/ ١٦٩)، و «المغني» (٧/ ٧٧، ٧٨)، و «كشاف القناع» (٥/ ١١، ١٢)، و «شرح منتهى الإرادات» (٥/ ١٠٥)، و «منار السبيل» (٢/ ٥٣٣)، و «مجموع الفتاوى» (٢٢/ ١٠٩، ١١٠)، و «عمدة القاري» (٢٠/ ١١٩)، و «تفسير القرطبي» (١٤/ ٢٢٧)، وقالَ القُرطبيُّ : قولُه تعالَى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾، في هذهِ الآيةِ دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى أَذِنَ في مَسألتِهنَّ مِنْ وراءِ حِجابٍ في حاجةِ تَعرضُ أو مَسألةٍ يُستَفتَينَ فيها، ويدخلُ في ذلكَ جَميعُ النِّساءِ بالمَعنى وبما تَضمَّنتْه أصولُ الشَّريعةِ مِنْ أنَّ المرأةَ كلَّها عَورةٌ، بدَنُها وصَوتُها كمَا تقدَّمَ، فلا يَجوزُ كَشفُ ذلكَ إلَّا لِحاجةٍ كالشَّهادةِ عليها أو داءٍ يكونُ ببَدنها أو سُؤالِها عمَّا يَعرضُ وتَعيَّنَ عندَها.

<<  <  ج: ص:  >  >>