ومع حِكايةِ الطَّحاويِّ هذا فقدِ انتَصرَ كعادَتِه فقالَ: قَولُه في قصَّةِ عُمرَ: «حَبِّسِ الأصلَ وسَبِّلِ الثَّمرةَ» لا يَستلزِمُ التَّأبيدَ، بل يَحتملُ أنْ يَكونَ أرادَ مدَّةَ اختِيارِه لذلك. اه
ولا يَخفَى ضَعفُ هذا التَّأويلِ، ولا يُفهَمُ مِنْ قَولِه:«وَقَفتُ وحَبَّستُ» إلا التَّأبيدُ حتى يُصرِّحَ بالشرطِ عندَ مَنْ يَذهبُ إليه، وكأنه لم يَقِفْ على الرِّوايةِ التي فيها «حَبيسٌ ما دامَتِ السَّماواتُ والأرضُ»، قالَ القُرطبيُّ: رَدُّ الوَقفِ مُخالِفٌ للإجماعِ فلا يُلتفَتُ إليهِ، وأحسَنُ ما يُعتذَرُ به عمَّن رَدَّه ما قالَ أبو يُوسفَ، فإنه أعلَمُ بأبي حَنيفةَ مِنْ غَيرِه، وأشارَ الشافِعيُّ إلى أنَّ الوَقفَ مِنْ خَصائِصِ أهلِ الإسلامِ -أيْ وَقفُ الأراضِي والعَقارِ- قالَ: ولا نَعرفُ أنَّ ذلكَ وقَعَ في الجَاهليةِ، وحَقيقةُ الوَقفِ شَرعًا ورُودُ صِيغةٍ تَقطعُ تَصرُّفَ الواقفِ في رَقبةِ المَوقوفِ الذي يَدومُ الانتفاعُ بهِ وتُثبِتُ صَرْفَ مَنفعتِه في جِهةِ خَيرٍ (١).
وقالَ ابنُ نُجيمٍ ﵀: والحاصِلُ أنه لا خِلافَ في صحَّتِه، وإنَّما الخِلافُ في لُزومِه، فقالَ بعَدمِه وقالَا به، فلا يُباعُ ولا يُورثُ، ولَفظُ الواقفِ يَنتظمُهما، والتَّرجيحُ بالدَّليلِ.
وقدْ أكثَرَ الخَصَّافُ مِنْ الاستدلالِ لهُمَا بوُقوفِ النبيِّ ﷺ وأصحابِه ﵃، وقد كانَ أبو يُوسفَ مع الإمامِ حتى حَجَّ مع الرَّشيدِ ورَأى وُقوفَ الصَّحابةِ ﵃ بالمَدينةِ ونَواحيها، رجَعَ وأَفتَى بلُزومِه.