للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَرثتِه، والوَقفُ حَبسٌ عن فَرائضِ اللهِ تعالى عَزَّ شَأنُه، فكانَ مَنفِيًّا شَرعًا، فيَجوزُ له بَيعُه والرُّجوعُ فيه ويُورثُ عنه.

وعَن شُريحٍ أنه قالَ: «جاءَ مُحمدٌ ببَيعِ الحَبيسِ»، وهذا منه رِوايةٌ عن النبيِّ أنه يَجوزُ بَيعُ المَوقوفِ؛ لأنَّ الحَبيسَ هو المَوقوفُ، فَعِيلٌ بمَعنى المَفعولِ؛ إذِ الوَقفُ حَبسٌ لُغةً، فكانَ المَوقوفُ مَحبوسًا، فيَجوزُ بَيعُه، وبه تَبيَّنَ أنَّ الوَقفَ لا يُوجِبُ زَوالَ الرَّقبةِ عن مِلكِ الواقفِ.

ولأنَّ شَرائطَ الواقفِ تُراعَى فيه، ولو زالَ عن مِلكِهِ لم تُراعَ كالمسجِدِ، ولأنه يَحتاجُ إلى التصدُّقِ بالغلَّةِ دائِمًا، ولا يَكونُ ذلكَ إلا ببَقاءِ العينِ على مِلكِه، ويَدلُّ عليه قَولُه لعُمرَ: «احبِسْ أصْلَها وسَبِّلْ ثَمرتَها»، أي: احبِسْهُ على مِلكِكَ وتَصدَّقْ بثَمَرتِها، وإلا لَكانَ مُسبَّلًا جَميعُها، وهذا لأنَّ خُروجَ المِلكِ لا إلى مالكٍ غيرُ مَشروعٍ، ألَا تَرى أنَّ اللهَ تعالى نهَانا عن السَّائبةِ، وهي التي يُسيِّبُها مالِكُها ويُخرِجُها عن مِلكِه بزَعمِهم ولا يَتناولُ منها إلا الفُقراءُ أو الضُّيوفُ، بخِلافِ الإعتاقِ أو المَسجدِ؛ لأنه يُحرَزُ عن حقِّ العَبدِ، حتى لا يَجوزُ له أنْ يَنتفعَ به، ولهذا لا يَنقطعُ عنه حقُّ العَبدِ، حتى كانَ له وِلايةُ التَّصرفِ فيه بصَرفِ غلَّاتِه إلى مَصارِفِه ونَصبِ القَيِّمِ، ولأنه تَصدُّقٌ بالغلَّةِ أو بالمَنفعةِ المَعدومةِ، وهو غيرُ جائِزٍ إلا في الوَصيةِ.

ولهذا أرادَ عُمرُ أنْ يَبيعَ ذلكَ بعد مَوتِ النبيِّ ثُمَّ كَرِهَ أنْ يَنقُضَ ما كانَ بينَه وبينَ رَسولِ اللهِ فتَرَكَه، ذكَرَهُ الطَّحاويُّ، ولو كانَ لازِمًا لَمَا حَلَّ له أنْ يَنقضَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>