للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالَ الإمامُ النَّوويُّ : الخَمرُ نَجسةٌ عندَنا، وعندَ مالِكٍ، وأبي حَنيفةَ، وأحمدَ وسائِرِ العُلماءِ (١).

وقالَ الإمامُ القُرطبيُّ : فهِمَ الجُمهورُ من تَحريمِ الخَمرِ واستِخباثِ الشَّرعِ لها وإطلاقِ الرِّجسِ عليها والأمرِ باجتِنابِها، الحُكمَ بنَجاستِها.

فإنْ قيلَ: التَّنجيسُ حُكمٌ شَرعيٌّ ولا نَصَّ فيه، ولا يَلزمُ من كَونِ الشَّيءِ مُحرمًا أنْ يَكونَ نَجسًا، فكم من مُحرمٍ في الشَّرعِ ليسَ بنَجسٍ، قُلنا: قَولُه تَعالى: ﴿رِجْسٌ﴾ يَدلُّ على نَجاستِها؛ فإنَّ الرِّجسَ في اللِّسانِ النَّجاسةُ، ثم التَزَمنا ألَّا نَحكُمَ بحُكمٍ إلا عندَما نَجدُ فيه نَصًّا، لتَعطَّلَت الشَّريعةُ؛ فإنَّ النُّصوصَ فيها قَليلةٌ، فأيُّ نَصٍّ يُوجدُ عن تَنجيسِ البَولِ والعُذرةِ والمَيتةِ وغيرِ ذلك؟ وإنَّما هي الظَّواهِرُ والعُموماتُ والأقيِسةُ، وذهَبَ المُزنِيُّ من أَصحابِ الشافِعيِّ إلى طَهارتِها (٢).


(١) «المجموع» (١/ ٥٢٠)، وانظر: «مختصر القدوري» (٢١)، و «المبسوط» (٢٤/ ٢٣)، و «بدائع الصنائع» (٥/ ١١٥)، و «التاج والإكليل» (١/ ٩٧)، و «الفواكه الدواني» (٢/ ٢٨٨)، و «الشرح الكبير» (١/ ٨١)، و «بداية المجتهد» (١/ ١١٥)، و «الحاوي الكبير» (٢/ ٢٦٠)، و «مغني المحتاج» (١/ ٢١١)، و «حاشية عميرة» (١/ ٨٠)، و «مطالب أولي النهى» (١/ ٤٣).
(٢) «تفسير القرطبي» (٣/ ٦٢٥، ٦٢٦)، وممن قالوا بقَولِ المُزنِيِّ رَبيعةُ شَيخُ مالِكٍ، واللَّيثُ بنُ سَعدٍ، وداودُ الظاهِريُّ والصَّنعانِيُّ والشَّوكانِيُّ والشَّيخُ الألبانِيُّ وابنُ عُثَيمينَ وغيرُهم ومن الأدِلةِ التي استَدَلوا بها حَديثُ أنَسٍ في قِصةِ تَحريمِ الخَمرِ، وفيه: فأمَرَ رَسولُ اللهِ : «مُناديًا يُنادي، ألَا إنَّ الخَمرَ قد حُرِّمت. قالَ: فخرَجتُ فأهرَقتُها فجَرَت في سِككِ المَدينةِ» رَواه البُخاريُّ (٢٣٣٢)، ومُسلمٌ (١٩٨٠)، وحَديثُ الرَّجلِ الذي كانَ معه مَزادَتان فيهما خَمرٌ «فقالَ النَّبيُّ إنَّ اللهَ إذا حرَّمَ شَيئًا فيها حرَّمَ بَيعَها، ففتَحَ الرَّجلُ المَزادتَينِ حتى ذهَبَ ما فيهما» رَواه مُسلمٌ (١٢٠٦).
قالَ القُرطُبيُّ: وقد استدَلَّ سَعيدُ بنُ حَدادٍ القَرويُّ على طَهارتِها بسَفكِها في طُرقِ المَدينةِ، قالَ: ولوكانَت نَجسةً لما فعَلَ ذلك الصَّحابةُ ولنَهي رَسولِ اللهِ عنه، كما نَهى عن التَّخلِّي في الطُّرقِ.
والجَوابُ: أنَّ الصَّحابةَ فعَلوا ذلك؛ لأنَّهم لم يَكُنْ لهم سُروبٌ ولا آبارٌ يُريقونَها فيها؛ إذ الغالِبُ من أَحوالِهم أنَّهم لم يَكُنْ لهم كُنفٌ في بُيوتِهم، وقالَت عائِشةُ: إنَّهم كانوا يَتقذَّرونَ من اتِّخاذِ الكُنفِ في البُيوتِ، ونَقلُها إلى خارِجِ المَدينةِ فيه كُلفةٌ ومَشقةٌ، ويَلزمُ منه تَأخيرُ ما وجَبَ على الفَورِ، وأيضًا فإنَّه يُمكنُ التَّحرزُ منها، فإنَّ طُرقَ المَدينةِ كانَت واسِعةً، ولم تَكنِ الخَمرُ من الكَثرةِ بحيث تَصيرُ نَهرًا يَعمُّ الطَّريقَ كلَّها بل إنَّما جرَت في مَواضعَ يَسيرةٍ يُمكنُ التَّحرزُ عنها، هذا مع ما يَحصلُ في ذلك من فائِدةِ شُهرةِ إراقتِها في طُرقِ المَدينةِ ليَشيعَ العَملُ على مُقتَضى تَحريمِها من إتلافِها وأنَّه لا يُنتفعُ بها، وتَتابعَ الناسُ وتَوافَقوا على ذلك، واللهُ أعلَمُ. «تفسير القرطبي» (٣/ ٦٢٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>