غيرِ السَّبيلَينِ؛ فإنَّه لم يَنقُلْ أحَدٌ بإِسنادٍ يَثبُتُ مِثلُه أنَّه أمَرَ بذلك مع العِلمِ بأنَّ الناسَ كانوا لا يَزالونَ يَحتَجِمونَ ويَتقيَّؤونَ ويُجرَحونَ في الجِهادِ وغيرِ ذلك، وقد قطَعَ عِرقَ بعضِ أَصحابِه ليُخرجَ منه الدَّمَ، وهو الفِصادُ، ولم يَنقُلْ عنه مُسلمٌ أنَّه أمَرَ أَصحابَه بالتَّوضُّؤِ من ذلك (١).
وقالَ الإمامُ ابنُ رُشدٍ ﵀: اختَلفَ عُلماءُ الأَمصارِ في انتِقاضِ الوُضوءِ مما يَخرجُ من الجَسدِ من النَّجسِ على ثَلاثةِ مَذاهبَ: فاعتبَرَ قَومٌ في ذلك الخارِجَ وَحدَه من أيِّ مَوضعٍ خرَجَ، وهو أبو حَنيفةَ وأَصحابُه والثَّوريُّ وأحمدُ وجَماعةٌ، ولهم من الصَّحابةِ السَّلفُ فقالوا: كلُّ نَجاسةٍ تَسيلُ من الجَسدِ وتَخرجُ منه يَجبُ منها الوُضوءُ كالدَّمِ والرُّعافِ الكَثيرِ والفَصدِ والحِجامةِ والقَيءِ إلا البَلغمَ عندَ أبي حَنيفةَ.
وقالَ أبو يُوسفَ من أَصحابِ أبي حَنيفةَ: إنَّه إذا ملَأَ الفَمَ ففيه الوُضوءُ، ولم يَعتبِرْ أحَدٌ من هؤلاء اليَسيرَ من الدَّمِ إلا مُجاهدًا، واعتبَرَ قَومٌ آخَرونَ المَخرَجَين الذَّكرَ والدُّبرَ، فقالوا: كلُّ ما خرَجَ من هذَين السَّبيلَينِ فهو ناقِضٌ للوُضوءِ من أيِّ شَيءٍ خرَجَ من دَمٍ أو حَصاةٍ أو بَلغَمٍ، وعلى أيِّ وَجهٍ خرَجَ كانَ خُروجُه على سَبيلِ الصِّحةِ أو على سَبيلِ المَرضِ، وممَّن قالَ بهذا القَولِ الشافِعيُّ وأَصحابُه، ومُحمدُ بنُ عبدِ الحَكمِ من أَصحابِ مالِكٍ.
(١) «مجموع الفتاوى» (٢٥/ ٢٣٧، ٢٣٨)، وينظر: «التلقين» (١/ ٤٧)، و «حاشية الدسوقي» (١/ ١٩٠)، و «بلغة السالك» (١/ ٩٤)، و «كفاية الأخيار» ص (٧٦)، و «المغني» (١/ ٢٢٠)، و «التحقيق» (١/ ١٤٣)، و «نيل الأوطار» (١/ ٢٣٥)، و «منار السبيل» (١/ ٤٤)، و «عون المعبود» (١/ ٢٣١).