وهذا خِلافُ الكِتابِ، ولأنَّ الأمرَ بالوُضوءِ لحُصولِ الطَّهارةِ لقَولِه تَعالى في آخِرِ الآيةِ: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ [النساء: ٦] وحُصولُ الطَّهارةِ لا يَقفُ على النِّيةِ بل على استِعمالِ المُطهِّرِ في مَحلٍّ قابِلِ للطَّهارةِ، والماءُ مُطهِّرٌ؛ لمَا رُويَ عن النَّبيِّ ﷺ: «الماءُ طَهورٌ لا يُنجِّسُه شَيءٌ»، وقالَ تَعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨]، والطَّهورُ اسمٌ للطاهِرِ في نَفسِه المُطهِّرِ لغيرِه، والمَحلُّ قابِلٌ على ما عُرفَ، وبه تَبيَّن أنَّ الطَّهارةَ عَملُ الماءِ خِلقةً وفِعلُ اللِّسانِ فَضلٌ في البابِ، حتى لو سالَ عليه المَطرُ أجزَأَه عن الوُضوءِ والغَسلِ فلا يُشترطُ لهما النِّيةُ إذِ اشتِراطُها لاعتِبارِ الفِعلِ الاختِياريِّ، وبه تَبيَّن أنَّ اللَّازمَ للوُضوءِ مَعنى الطَّهارةِ، ومَعنى العِبادةِ فيه مِنْ الزَّوائدِ، فإنِ اتَّصلَت به النِّيةُ يَقعُ عِبادةً، وإنْ لم يَتصلْ به لا يَقعْ عِبادةً، لكنَّه يَقعُ وَسيلةً إلى إِقامةِ الصَّلاةِ لحُصولِ الطَّهارةِ كالسَّعيِ إلى الجُمُعةِ (١).
قالَ ابنُ رُشدٍ ﵀: وسَببُ اختِلافِهم -أي: الحَنفيةِ- مع الجُمهورِ تَردُّدُ الوُضوءِ بينَ أنْ يَكونَ عِبادةً مَحضةً، أعني: غيرَ مَعقولةِ المَعنى، وإنَّما يُقصدُ بها القُربةُ فقط، كالصَّلاةِ وغيرِها، وبينَ أنْ يَكونَ عِبادةً مَعقولةَ المَعنى، كغَسلِ النَّجاسةِ؛ فإنَّهم لا يَختلِفون أنَّ العِبادةَ المَحضةَ مُفتقرةٌ إلى النِّيةِ، وأنَّ العِبادةَ المَفهومةَ المَعنى غيرُ مُفتقرةٍ إلى النِّيةِ، والوُضوءُ فيه شَبهٌ
(١) «بدائع الصنائع» (١/ ٨٢، ٨٤)، و «أحكام القرآن» للجصاص (٣/ ٣٣٥، ٣٣٧)، و «رد المحتار» (١/ ٣٢٢).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute