وممَّا يَدلُّ على ذلك اتِّفاقُ العُلماءِ على جَوازِ إسلامِ النَّقدَيْنِ في المَوزوناتِ، وهذا بَيعُ مَوزونٍ بمَوزونٍ إلى أجَلٍ، فلو كانَتِ العِلَّةُ الوَزنَ لَم يَجُزْ هذا، والمُنازِعُ يَقولُ: جَوازُ هذا استِحسانٌ، وهو نَقيضٌ لِلعِلَّةِ. ويَقولُ: إنَّه جُوِّزَ هذا لِلحاجةِ؛ مع أنَّ القياسَ تَحريمُه، فيَلزَمُه أنْ يَجعَلَ العِلَّةَ الرِّبا بما ذكَره. وذلك خِلافُ قَولِه. وتَخصيصُ العِلَّةِ الذي قد سُمِّيَ استِحسانًا -إنْ لَم يُبيَّنْ- دَليلٌ شَرعيٌّ يُوجِبُ تَعليقَ الحُكمِ لِلعِلَّةِ المَذكورةِ، واختِصاصَ صُورةِ التَّخصيصِ بمَعنًى يَمنَعُ ثُبوتَ الحُكمِ مِنْ جِهةِ الشَّرعِ، والأحاديثِ، وإلَّا كانَتِ العِلَّةُ فاسِدةً.
والتَّعليلُ بالثَّمنيَّةِ تَعليلٌ بوَصفٍ مُناسِبٍ؛ فإنَّ المَقصودَ مِنْ الأثمانِ أنْ تَكونَ مِعيارًا لِلأموالِ يُتوسَّلُ بها إلى مَعرِفةِ مَقاديرِ الأموالِ، ولا يُقصَدُ الِانتِفاعُ بعَينِها، فمَتَى بِيعَ بَعضُها ببَعضٍ إلى أجَلٍ قُصِدَ بها التِّجارةُ التي تُناقِضُ مَقصودَ الثَّمنيَّةِ، واشتِراطُ الحُلولِ والتَّقابُضِ فيها هو تَكميلٌ لِمَقصودِها مِنْ التَّوسُّلِ بها إلى تَحصيلِ المَطالِبِ؛ فإنَّ ذلك إنَّما يَحصُلُ بقَبضِها، لا بثُبوتِها في الذِّمَّةِ، مع أنَّها ثَمَنٌ مِنْ طَرَفَيْنِ، فنهَى الشارِعُ أنْ يُباعَ ثَمَنٌ بثَمَنٍ إلى أجَلٍ، فإذا صارَتِ الفُلوسُ أثمانًا صارَ فيها المَعنَى، فلا يُباعُ ثَمَنٌ بثَمَنٍ إلى أجَلٍ (١).