للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم لَمَّا كانَ حُصولُ النَّماءِ والرِّبحِ بالتِّجارةِ من أشَقِّ الأَشياءِ وأكثَرِها مُعاناةً وعَملًا خَفَّفها بأنْ جعَل فيها رُبع العُشرِ، ولَمَّا كانَ الرِّبحُ والنَّماءُ بالزُّروعِ والثِّمارِ التي تُسقَى بالكُلفةِ أقَلَّ كُلفةً، والعَملُ أيسَرَ، ولا يَكونُ في كلِّ السَّنةِ جعَلَه ضِعفَه، وهو نِصفُ العُشرِ، ولمَّا كانَ التَّعبُ والعَملُ فيما يَشربُ بنَفسِه أقَلَّ والمُؤنةُ أيسَرَ جعَلَه ضِعفَ ذلك وهو العُشرُ، واكتَفى فيه بزَكاةِ عامِهِ خاصَّةً، فلو أَقامَ عندَه بعدَ ذلك عِدةَ أَحوالٍ لغيرِ التِّجارةِ لم يَكنْ فيه زَكاةٌ؛ لأنَّه قد انقطَع نَماؤُه وزيادتُه بخِلافِ الماشيةِ وبخِلافِ ما لو أُعدَّ للتِّجارةِ فإنَّه عُرضةٌ للنَّماءِ، ثم لمَّا كانَ الرِّكازُ مالًا مَجموعًا مُحصَّلًا وكُلفةُ تَحصيلِه أقَلَّ من غيرِه ولم يَحتَجْ إلى أكثَرَ من استِخراجِه كانَ الواجِبُ فيه ضِعفَ ذلك، وهو الخُمسُ.

فانظُرْ إلى تَناسُبِ هذه الشَّريعةِ الكامِلةِ التي بهرَ العُقولَ حُسنُها وكَمالُها وشهِدت الفِطرُ بحِكمتِها، وأنَّه لم يَطرُقِ العالَمُ شَريعةً أفضَلَ منها، ولو اجتمَعَت عُقولُ العُقلاءِ وفِطرُ الأَلبَّاءِ واقتَرحَت شَيئًا يَكونُ أحسَنَ مُقتَرَحٍ لم يَصِلِ اقتِراحُها إلى ما جاءَت به (١).


(١) «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (٢/ ١١٠، ١١١)، وأما الإمامُ ابنُ حَزمٍ فقد صرَّح بإنكارِ النَّماءِ بأنَّه شَرطٌ لِوُجوبِ الزَّكاةِ أو عِلَّةٌ لِوُجوبِها وشنَّع على القائِلين به.
قال الإمامُ ابنُ حَزمٍ: وأمَّا قوَلهُم: إنَّ الزَّكاةَ فيما يَنمي، فدَعوى كاذِبةٌ مُتناقِضةٌ؛ لأنَّ عُروضَ القِنيةِ تَنمي قيمَتُها كعُروضِ التِّجارةِ ولا فَرقَ.
فإن قالوا: العُروضُ لِلتِّجارةِ فيها النَّماءُ، قلنا: وفيها أيضًا الخَسارةُ وكذلك الحَميرُ تَنمي ولا زَكاةَ فيها عندَهم، والخيلُ تَنمي ولا زَكاةَ فيها عندَ الشافعيِّين والمالكيِّين، والإبِلُ العَوامِلُ تَنمي ولا زَكاةَ فيها عندَ الحنفيِّين والشافِعيِّين، وما أُصيب في أرضِ الخَراجِ يَنمي ولا زَكاةَ فيها عندَ الحَنفيِّين، وأموالُ العَبيدِ تَنمي ولا زَكاةَ فيها عندَ المالِكيِّين.
قال أبو مُحمدٍ: وأقوالُهم واضطِرابُهم في هذه المَسألةِ نَفسِها بُرهانٌ قاطِعٌ على أنها ليست من عندِ اللهِ تَعالى.
فإنَّ طائِفةً منهم قالت: تُزكَّى عُروضُ التِّجارةِ من أعيانِها، وهو قَولُ المُزَنيِّ، وطائِفةً قالت: بل نُقوِّمها، ثم اختلفوا، فقال أبو حَنيفةَ: نُقوِّمها بالأحوَطِ لِلمساكينِ، وقال الشافِعيُّ: بل بما اشتراها به، فإنْ كان اشتَرى عَرضًا بعَرضٍ قَوَّمه بما هو الأغلَبُ من نَقدِ البَلدِ.
وقال مالِكٌ: مَنْ باع عَرضًا بعَرضٍ أبدًا فلا زَكاةَ عليه إلا حتى يَبيعَ ولو بدِرهَمٍ، فإذا نَضَّ له ولو دِرهمٌ قوَّم حينَئذٍ عُروضَه وزكَّاها.
فليت شِعري ما شأنُ الدِّرهمِ ههنا، إنَّ هذا لعَجَبٌ فكيف إنْ لم يَنِضَّ له إلا نِصفُ دِرهَمٍ أو حَبَّةُ فِضَّةٍ أو فِلسٌ، كيف يَصنَعُ!
وقال أبو حَنيفةَ والشافِعيُّ: يُقوِّمُ ويُزكِّي وإنْ لم يَنِضَّ له دِرهمٌ.
وقال مالِكٌ: المُديرُ الذي يَبيعُ ويَشتري يُقوِّمُ كلَّ سَنةٍ ويُزكِّي، وأمَّا المُحتكِرُ فلا زَكاةَ عليه ولو حبَس عُروضَه سِنين إلا حتى يَبيعَ، فإذا باع زَكَّى حينَئذٍ لِسنةٍ واحِدةٍ وهذا عَجبٌ جدًّا.
وقال أبو حَنيفةَ والشافِعيُّ: كِلاهما سَواءٌ يُقوِّمان كلَّ سَنةٍ ويُزكَّيان. «المحلى» (٥/ ٢٣٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>