ذلك فلو ملَّكَه إِياه ولم يَأكُلْه المِسكينُ وباعَه أجَزأَه وإنْ لم يَتَناوَلْه حَقيقةُ اللَّفظِ بحُصولِ المَقصِدِ في وُصولِ هذا القَدْرِ مِنْ المالِ إليه، وإنْ لم يُطعِمْه ولم يَنتفِعْ به مِنْ جِهةِ الأكلِ، وكذلك لو أَعطاه كِسوةً فلم يَكتَسِ بها وباعَها، وإنْ لم يَكنْ له كاسيًا بإِعطائِه إذ كانَ مُوصِّلًا إليه هذا القَدرَ مِنْ المالِ بإِعطائِه إياه؟ ثبَتَ بذلك أنَّه ليسَ المَقصِدُ حُصولَ المَطعَمِ والاكتِساءِ وأنَّ المَقصِدَ وُصولُه إلى هذا القَدْرِ مِنْ المالِ، فلا يَختلِفُ حينَئِذٍ حُكمُ الدَّراهِمِ والثِّيابِ والطَّعامِ، ألَا تَرى أنَّ النَّبيَّ ﷺ قدَّرَ في صَدقةِ الفِطرِ نِصفَ صاعٍ مِنْ بُرٍّ أو صاعًا مِنْ تَمرٍ أو شَعيرٍ ثم قالَ:«أغنوهم عن المَسألةِ في هذا اليَومِ»، فأخبَرَ أنَّ المَقصودَ حُصولُ الغِنى لهم عن المَسألةِ، لا مِقدارُ الطَّعامِ بعَينِه؛ إذ كانَ الغِنى عن المَسألةِ يَحصُلُ بالقيمةِ كحُصولِه بالطَّعامِ (١).
وذهَبَ جُمهورُ الفُقهاءِ المالِكيةُ والشافِعيةُ والحَنابِلةُ إلى أنَّه لا يُجزِئُ في الكَفارةِ إِخراجُ قيمةِ الطَّعامِ ولا الكِسوةِ لقَولِ اللهِ تَعالى: ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] هذا ظاهِرٌ في عَينِ الطَّعامِ والكِسوةِ فلا يَحصُلُ التَّكفيرُ بغَيرِه؛ لأنَّه لم يُؤَدِّ الواجِبَ إذا لم يُؤَدِّ ما أمَرَه اللَّهُ ﷾ بأدائِه، ولأنَّ اللَّهَ تَعالى خَيَّرَ بينَ ثَلاثةِ أشياءَ، ولو جازَت القيمةُ لم يَنحَصِرِ التَّخييرُ في الثَّلاثةِ، ولأنَّه لو أُريدَت القيمةُ لم يَكُنْ للتَّخييرِ مَعنًى؛ لأنَّ قيمةَ الطَّعامِ إنْ ساوَت قيمةَ الكِسوةِ فهُما شَيءٌ واحِدٌ، فكَيفَ يُخيِّرُ بينَهما؟ وإنْ زادَت قيمةُ أحَدِهما على الآخَرِ فكَيفَ يُخيِّرُ بينَ
(١) «أحكام القرآن» (٤/ ١١٩، ١٢٠)، و «مختصر اختلاف العلماء» (٣/ ٢٤٨)، و «بدائع الصنائع» (٥/ ١٠٥، ١٠٦)، و «الجوهرة النيرة» (٦/ ٢٥، ٢٦).