وأمَّا مَنْ حكَمَ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ، ولكنَّه يَرى أنَّ حُكمَ اللهِ أَفضلُ مِنْ حُكمِه فهو فاسقٌ، وهل يَكفرُ بذلك؟ فيه كَلامٌ للعُلماءِ.
قالَ الإِمامُ أَبو بَكرٍ الجَصاصُ ﵀: «قولُه تَعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)﴾ [المائدة: ٤٤] لا يَخلو مِنْ أنْ يَكونَ مُرادُه كُفرُ الشِّركِ والجُحودِ أو كُفرُ النِّعمةِ مِنْ غيرِ جُحودِ، فإنْ كانَ المُرادُ جُحودَ حُكمِ اللهِ أو الحُكمُ بغيرِه معَ الإِخبارِ بأنَّه حُكمُ اللهِ فهذا كُفرٌ يُخرجُ عن المِلةِ، وفاعلُه مُرتدٌ إنْ كانَ قبلَ ذلك مُسلمًا، وعلى هذا تأوَّلَه مَنْ قالَ: «إنَّها نزَلَتْ في بَني إِسرائيلَ وجرَتْ فينا» يَعنونَ أنَّ مَنْ جحَدَ منا حُكمًا أو حكَمَ بغيرِ حُكمِ اللهِ، ثُم قالَ إنَّ هذا حُكمُ اللهِ فهو كافرٌ كما كفَرَتْ بَنو إِسرائيلَ حينَ فعَلُوا ذلك.
وإنْ كانَ المُرادُ به كُفرَ النِّعمةِ فإنَّ كُفرانَ النِّعمةِ قد يَكونُ بتَركِ الشُّكرِ عليها مِنْ غيرِ جُحودٍ، فلا يَكونُ فاعلُه خارجًا مِنْ المِلةِ، والأَظهرُ هو المَعنى الأَولُ لإِطلاقِه اسمَ الكُفرِ على مَنْ لمْ يَحكمْ بما أنزَلَ اللهُ» (١).
وقالَ الإِمامُ ابنُ جَريرٍ الطَّبريُّ ﵀ بعدَما ذكَرَ أَقوالَ العُلماءِ في نُزولِ الآيةِ ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)﴾ [المائدة: ٤٤]: «وأَولى هذه الأَقوالِ عِندي بالصَّوابِ قَولُ مَنْ قالَ نزَلَتْ هذه الآياتُ في كُفارِ أَهلِ الكِتابِ؛ لأنَّ ما قبلَها وما بعدَها مِنْ الآياتِ ففيهم نزلَتْ، وهم المَعنيونَ بها، وهذه الآياتُ سياقُ الخبَرِ عنهم فكونُها خبرًا عنهم أَولى.
(١) «أحكام القرآن» (٤/ ٩٣).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute