للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقالَ الشافِعيةُ في الأصَحِّ: لا يَجوزُ شُربُ الخَمرِ لعَطشٍ أو لجُوعٍ إذا لم يَنتهِ به الأمرُ إلى الهَلاكِ؛ لعُمومِ النهيِ، ولأنَّ بعضَها يَدعو إلى بَعضٍ، فإنْ انتَهى به الأمرُ إلى الهَلاكِ وجَبَ تَناولُها، كتَناولِ المَيتةِ للمُضطرِّ، ولا حَدَّ عليهِ في الحالتَينِ.

وفي وَجهٍ مُقابلَ الأصَحِّ: يَجوزُ شُربُها للجُوعِ والعَطشِ كما يَجوزُ شُربُ البَولِ والدمِ لذلكَ، وكما يُتداوَى بالنجاساتِ كلَحمِ الحيَّةِ والسَّرطانِ والمَعجونِ فيه خَمرٌ (١).

وقالَ الحَنابلةُ: إنْ شَربَ الخَمرَ لعَطشٍ فإنْ كانَتْ مَمزوجةً بما يَروِي مِنْ العَطشِ أُبيحَتْ لدَفعِه عندَ الضرورةِ كما تُباحُ المَيتةُ عندَ المَخمصةِ وكإباحتِها لدَفعِ الغصَّةِ؛ لِما في حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ حُذافةَ «أنه أسَرَه الرُّومُ فحبَسَه طاغِيتُهم في بَيتٍ فيه ماءٌ مَمزوجٌ بخَمرٍ ولَحمُ خِنزيرٍ مَشويٌّ ليَأكلَه ويَشربَ الخَمرَ، وتَركَه ثلاثةَ أيامٍ فلمْ يَفعلْ، ثمَّ أخرَجوهُ حينَ خَشوا مَوتَه فقالَ: واللهِ لقدْ كانَ اللهُ أحَلَّه لي فإني مُضطرٌّ، ولكنْ لم أكُنْ لأشمتَكُم بدِينِ الإسلامِ».

وإنْ شَربَها صِرفًا أو مَمزوجةً بشيءٍ يَسيرٍ لا يَروِي مِنْ العَطشِ أو شَربَها للتداوي لم يُبَحْ له ذلكَ وعليهِ الحَدُّ (٢).

قالَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ : وكذلكَ الخَمرُ يُباحُ لدَفعِ الغصَّةِ بالاتفاقِ، ويُباحُ لدَفعِ العَطشِ في أحَدِ قَولَي العُلماءِ، ومَن لم يُبِحْها قالَ: «إنها لا تَدفعُ العطشَ»، وهذا مَأخذُ أحمَدَ، فحِينئذٍ فالأمرُ مَوقوفٌ على دفعِ العطشِ بها، فإنْ عَلِمَ أنها تَدفعُه أُبيحَتْ بلا رَيبٍ كما يُباحُ لَحمُ الخِنزيرِ لدَفعِ المَجاعةِ، وضَرورةُ العَطشِ الذي يَرى أنه يُهلكُه أعظَمُ مِنْ ضَرورةِ الجُوعِ، ولهذا يُباحُ شربُ النجاساتِ عندَ العَطشِ بلا نِزاعٍ، فإنِ اندَفعَ العطشُ وإلا فلا إباحةَ في شَيءٍ مِنْ ذلكَ (٣).


(١) «روضة الطالبين» (٦/ ٦١٣، ٦١٤)، و «النجم الوهاج» (٩/ ٢٢٧)، و «مغني المحتاج» (٥/ ٥٠٩)، و «تحفة المحتاج» (١١/ ٩٧، ٩٨)، و «نهاية المحتاج» (٨/ ١٦).
(٢) «المغني» (٩/ ١٣٧، ١٣٨)، و «كشاف القناع» (٦/ ١٤٩)، و «شرح منتهى الإرادات» (٦/ ٢١٧).
(٣) «مجموع الفتاوى» (١٤/ ٤٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>