وإنْ ذهَبَ الشمُّ وأُخذَتْ فيه الدِّيةُ ثم عادَ وجَبَ رَدُّ الدِّيةِ؛ لأنَّا تَبينَّا أنه لم يَذهبْ وإنما حالَ دونَه حائلٌ؛ لأنه لو ذهَبَ لم يَعُدْ.
والشمُّ مِنْ الأمورِ المغيبةِ التي لا تُرى ولا تُعلَمُ إلا مِنْ صاحبِها، فإنِ ادَّعى المَجنيُّ عليهِ ذَهابَ شَمِّه وأنكَرَه الجاني وادَّعَى بَقاءَه كانَ القَولُ فيه قولَ المَجنيِّ عليهِ؛ لأنَّ ذَهابَه لا يُعرَفُ إلا مِنْ جِهتِه، لكن يُستظهرُ عليهِ بغايةِ ما يُمكنُ في اختبارِ صدقِه، بأنْ يُثارَ عليهِ في أوقاتِ غَفلاتِه الروائحُ الطيِّبةُ والمُنتِنةُ مرَّةً بعدَ أخرَى، فإنْ كانَ لا يَرتاحُ إلى الرَّوائحِ الطيِّبةِ ولا يَظهرُ منه كَراهةٌ للرَّوائحِ المُنتِنةِ دَلَّ ذلكَ على صِدقِه، فكانَ القَولُ فيه قولَه مع يَمينِه؛ لإمكانِ تَصنُّعِه، وإنْ وُجدَ منه الارتياحُ للرَّوائحِ الطيِّبةِ والكَراهةُ للروائحِ المنتِنةِ صارَ الظاهرُ بها في جَنبةِ الجاني، فأُحلِفَ على بَقاءِ شَمِّه ولا شيءَ عليهِ، فلو أُحلفَ المَجنيُّ عليهِ على ذَهابِ شَمِّه ثم غَطَّى أنفَه عندَ رائِحةٍ منتِنةٍ فادَّعى الجاني أنه غطَّاهُ لبقاءِ شَمِّه وقالَ المَجنيُّ عليهِ:«بل غطَّيتُه لحاجةٍ أو عادةٍ» كانَ القَولُ فيه قولَ المَجنيِّ عليهِ دون الجاني، ويُحكَمُ له بالدِّيةِ؛ لاحتِمالِ ما قالَه (١).
وذهَبَ الشافِعيةُ في مُقابلِ الصَّحيحِ إلى أنَّ فيه حُكومةً؛ لأنه ضَعيفُ
(١) «بدائع الصنائع» (٧/ ٣١٧)، و «البحر الرائق» (٨/ ٣٨٥)، و «الفتاوى الهندية» (٦/ ٢٥)، و «عقد الجواهر الثمينة» (٣/ ١١١٩)، و «التاج والإكليل» (٥/ ٢٦٥)، و «شرح مختصر خليل» (٨/ ٣٦)، و «تحبير المختصر» (٥/ ٢٧٣)، و «الحاوي الكبير» (١٢/ ٢٦٠)، و «المهذب» (٢/ ٢٠٢)، و «البيان» (١١/ ٥٢٤)، و «مغني المحتاج» (٥/ ٣٢٠)، و «الكافي» (٤/ ١٠١)، و «كشاف القناع» (٦/ ٤٨).