للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقالَ الإمامُ أبو بكرٍ الجصَّاصُ : فإنْ قيلَ: قالَ اللهُ تعالَى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، وقالَ النبيُّ : «لا يُؤخَذُ الرَّجلُ بجَريرةِ أبيهِ ولا بجَريرةِ أخيهِ»، وقالَ لأبي رَمثةَ وابنِه: «إنه لا يَجنِي عليكَ ولا تَجنِي عليهِ»، والعُقولُ أيضًا تَمنعُ أخْذَ الإنسانِ بذَنبِ غيرِه.

قيلَ له: أمَّا قولُه تعالَى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤] فلا دَلالةَ فيه على نَفيِ وُجوبِ الدِّيةِ على العاقِلةِ؛ لأنَّ الآيةَ إنما نفَتْ أنْ يُؤخَذَ الإنسانُ بذَنبِ غيرِه، وليسَ في إيجابِ الدِّيةِ على العاقِلةِ أخذُهم بذَنبِ الجاني، إنما الدِّيةُ عندَنا على القاتلِ، وأمَرَ هؤلاءِ القَومَ بالدُّخولِ معَه في تَحمُّلِها على وَجهِ المُواساةِ له مِنْ غيرِ أنْ يُلزِمَهم ذنْبَ جِنايتِه، وقد أوجَبَ اللهُ في أموالِ الأغنياءِ حُقوقًا للفُقراءِ مِنْ غيرِ إلزامِهم ذَنبًا لم يُذنبوهُ، بل على وَجهِ المُواساةِ، وأمَرَ بصِلةِ الأرحامِ بكُلِّ وَجهٍ أمكَنَ ذلكَ، وأمَرَ ببِرِّ الوالِدينِ، وهذهِ كلُّها أمورٌ مَندوبٌ إليها للمُواساةِ وصَلاحِ ذاتِ البَينِ، فكذلكَ أُمِرَتِ العاقِلةُ بتحمُّلِ الدِّيةِ عن قاتلِ الخَطأِ على جهةِ المُواساةِ مِنْ غيرِ إجحافٍ بهم به، وإنما يَلزمُ كلَّ رَجلٍ منهُم ثَلاثةُ دَراهمَ أو أربَعةُ دَراهمَ، ويُجعلُ ذلكَ في أُعطِياتِهم إذا كانَوا مِنْ أهلِ الدِّيوانِ، ومُؤجَّلةً ثَلاثَ سِنينَ، فهذا ممَّا نُدِبوا إليهِ مِنْ مَكارمِ الأخلاقِ.

وقد كانَ تَحمُّلُ الدِّياتِ مَشهورًا في العَربِ قبلَ الإسلامِ، وكانَ ذلكَ ممَّا يُعَدُّ مِنْ جَميلِ أفعالِهم ومَكارمِ أخلاقِهم، وقالَ النبيُّ :

<<  <  ج: ص:  >  >>