وأما الحَنفيةُ فقالَ الإمامُ الكاسانِيُّ ﵀: لو شَجَّ إنسانًا مُوضحةً مُتعمِّدًا فذهَبَ منها بَصرُه فلا قِصاصَ في قَولِ أبي حَنيفةَ، وفيها وفي البَصرِ الأرشُ، وقالَا: في المُوضحةِ القِصاصُ، وفي البصرِ الديةُ، هذه رِوايةُ «الجامِع الصَّغير» عن مُحمدٍ.
ورَوى ابنُ سماعةَ في نَوادرِه عنه أنَّ فيهِما جَميعًا القصاصُ.
وجهُ هذه الرِّوايةِ أنه تَولَّدَ مِنْ جِنايةِ العَمدِ إلى عُضوٍ يُمكنُ فيه القِصاصُ، فيَجبُ فيه القِصاصُ كما إذا سرَى إلى النفسِ.
وجهُ ظاهرِ قَولِهما: إنَّ تلَفَ البَصرِ حصَلَ مِنْ طَريقِ التَّسبيبِ لا مِنْ طريقِ السِّرايةِ؛ بدَليلِ أنَّ الشَّجةَ تبقَى بعدَ ذَهابِ البَصرِ، وحُدوثُ السِّرايةِ يُوجبُ تغيُّرَ الجِنايةِ، كالقَطعِ إذا سَرى إلى النفسِ أنه لا يَبقَى قَطعًا، بل يَصيرُ قتلًا، وهُنا الشَّجةُ لم تَتغيرْ، بل بَقيَتْ شَجةً كما كانَتْ، فدَلَّ أنَّ ذَهابَ البَصرِ ليسَ مِنْ طَريقِ السِّرايةِ، بل مِنْ طَريقِ التَّسبيبِ، والجنايةُ بطَريقِ التَّسبيبِ لا تُوجبُ القصاصَ كما في حَفرِ البئرِ ونحوِ ذلك …
ولو ذهبَتْ عَيناهُ ولسانُه وسَمعُه وجِماعُه فلا قِصاصَ في شَيءٍ مِنْ ذلكَ على أصلِ أبي حَنيفةَ ﵁، وعلى قَولِهما: في المُوضِحةِ القِصاصُ، ولا قِصاصَ في العَينينِ في ظاهِرِ قَولِهما، بل فيهما الأرشُ.
وعلى رِوايةِ «النَّوادر» عن مُحمدٍ: فيهِما القِصاصُ دونَ اللسانِ والسَّمعِ والجِماعِ؛ لأنه لا يُمكنُ فيهِما القِصاصُ؛ إذ لا قِصاصَ في ذَهابِ مَنفعةِ اللِّسانِ والسَّمعِ والجِماعِ في الشَّرعِ، وفي ذَهابِ البصرِ قِصاصٌ في الشريعةِ …