والدليل على أن ظاهر كل واحدةٍ من القراءتين ما ذكرنا: أن مَن قرأ من الصحابة بالنصب اعتقد الغسل، ومن قرأ منهم بالخفض اعتقد أيضًا المسح، وهم أهل لغة ولسان، ولولا أن ظاهر كل واحدة من القراءتين ما اعتقده مَن قرأها، وإلا لطولب بالدليل على عدوله عن الظاهر، فإذا احتملت الآية الأمرين، كان فعله ﷺ بيانًا للاحتمال، وقد بينا أنّه ﷺ غسل رجليه وقال:"هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به".
فإن قالوا لا نسلم أن ظاهر قراءة النصب تفيد الغسل، بل تفيد المسح، ونصب الأرجل عطفًا على الموضع والمجاورة؛ لأنّ المسح موضعه نصب، وإنما خفضه بدخول حرف الجر فيه وهي الباء، فإذا عطف عليه فهو مخيّر إن شاء عطف على لفظه، وإن شاء عطف على موضعه، وهذا ظاهر في اللغة وقد أنشدوا فيه:
مُعَاوَيَ إننا بَشَر فأسْجِح … فَلَسْنا بالجبالِ ولا الحديدَا (١)
فالجواب: أن سيبويه قد ذكر أن الأجود هو العطف على اللفظ، فأما العطف على الموضع للمجاورة فليس هو في الظهور كالعطف على اللفظ؛ فإذا كان هذا تركًا للظاهر خرج منه ما قلنا.
وقد قيل: إن العطف على الموضع إنّما يخيّر بينه وبين العطف على اللفظ إذا لم يلتبس، فأما إذا التبس لم يخير، [كما] قالوا: رأيت زيدًا ومررت بعمرو، فإذا قلت وبكرًا وأردت عطفه على عمرو، لم يخير ولم يجز النصب فيه عطفًا على الموضع؛ لأنه يلتبس أنّه مَرْئيٌّ أو ممرور به، كذلك في مسألتنا لما اختلف ما قبل
(١) البيت لعقبة الأسدي كما في اللسان (غمز)؛ والشعر والشعراء لابن قتيبة ص ٩٩.