للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تصحُّ. قلنا: لمَّا خاطبه الشَّرع في حالِ سُكره بالأمر والنَّهي بحكمٍ فرعيٍّ عَرفنا أنَّه اعتبرهُ كقائم العقلِ تشديدًا عليه في الأحكامِ الفرعيَّة، وعقلنا أنَّ ذلك يناسبُ كونه تسبَّب في زوالِ عقله بسببٍ محظورٍ وهو مختارٌ فيه، وعلى هذا اتَّفق فتاوى مشايخ المذهبين من الشَّافعيَّة والحنفيَّة بوقوع طلاقِ من غابَ عقله بأكل الحشيشةِ وهي المسمَّاة (١) بورق القِنَّب لفتواهم بحرمتها (٢) بعد أن اختلفوا فيها، فأفتى المُزنيُّ بحرمتها، وأفتى أسد بن عَمرو بحلِّها لأنَّ المتقدِّمين لم يتكلَّموا فيها بشيءٍ لعدم ظهور شأنها فيهم، فلمَّا ظهر من أمرها (٣) من الفساد كثيرٌ (٤) وفشا عادَ مشايخُ المذهبين إلى حُرمتها، وأفتوا بوقوع الطَّلاق ممَّن زال عقلُه بها إذا استعملها مختارًا.

أمَّا إذا أُكره على شرب مُسكرٍ، ولم يعلم أنَّه مُسكرٌ فلا يقعُ طلاقه لعدم تعدِّيه، والرُّجوع في معرفة السُّكر إلى العُرف. ولو قال: إنَّما شربتُ الخمر مُكرهًا وثمَّ قرينة، أو لم أعلم أنَّ ما شربتُه مُسكرٌ صدِّق بيمينهِ، قاله الأذرعيُّ. وأمَّا المُكره فعند الشَّافعيَّة لا يصحُّ طلاقُه لحديث: «ومَا استكرهُوا عليهِ» وحديث: «لَا طلَاقَ فِي إغلَاقٍ» أي: إكراهٍ. رواه أبو داود والحاكمُ وصحَّح إسناده. وحدُّ الإكراهِ أن يُهدِّد المكرَه قادرٌ على الإكراهِ بولايةٍ أو تَغَلُّبٍ عاجلًا ظلمًا، وعجزَ المكرَه عن دفعهِ بهربٍ وغيرهِ كاستغاثةٍ بغيرهِ، وَظَنَّهُ أنَّه إن امتنعَ من فعلِ ما أُكره عليه حقَّق ما هدَّدهُ به، ويحصلُ بتخويفٍ بمحذورٍ كضربٍ شديدٍ، أو إتلافِ مالٍ، ويختلفُ باختلافِ طبقات النَّاس وأحوالهِم، فلا يحصلُ الإكراهُ بالتَّخويف بالعقوبةِ الآجلة، كقوله: لأضربنَّك غدًا، ولا بالتَّخويف المستحقِّ، كقوله لمَن له عليه قصاصٌ: طلِّقها وإلَّا اقتصصتُ منك، فإن ظهرَ من المكَرهِ قرينة اختيار منه للطَّلاق كأن أُكْره على ثلاثٍ من الطَّلْقات (٥)، أو على صريحٍ، أو تعليقٍ، أو طلاقِ مُبهمةٍ، فخالفَ بأن وحَّد، أو ثنَّى، أو كنَّى، أو نجَّز، أو طلَّق مُعيَّنةً وقعَ الطَّلاق، وقال الحنفيَّة: يقعُ طلاقُ المُكره لأنَّ المكره مختارٌ في التَّكلُّم اختيارًا كاملًا في السَّبب إلَّا أنَّه غير راضٍ بالحكمِ لأنَّه عرف الشَّرَّين فاختارَ أهونهما عليهِ.


(١) في (د): «الحشيش وهو المسمى».
(٢) في (م) و (ص) و (د): «بحرمته».
(٣) في (م) و (د) زيادة: «فيهم».
(٤) في (م): «كثر».
(٥) في (م) و (د): «التطليقات».

<<  <  ج: ص:  >  >>