للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

شفعاء كما تزعمون، بل هم عنده ممسكون لأمره إلى أن يزول الفزع عن قلوبهم، والمراد بهم الملائكة، وهو المطابق للأحاديث الواردة في ذلك، فهو المعتمد. وغرض المؤلِّف من ذكر هذه الآية بل من الباب كلِّه: إثبات كلام الله القائم بذاته تعالى، ودليله أنَّه قال: ﴿مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾ (وَلَمْ يَقُلْ: مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ؟) وهذا أوَّل بابٍ ذكره المؤلِّف في مسألة الكلام، وهي مسألةٌ طويلةٌ، وقد تواتر القول -بأنَّه تعالى متكلِّمٌ- عن الأنبياء، ولم يختلف في ذلك أحدٌ من أرباب المِلَل والمذاهب، وإنَّما الخلاف في معنى كلامه وقِدَمه وحدوثه، فعند أهل الحقِّ (١) أنَّ كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف، بل صفةٌ أزليَّةٌ قائمةٌ بذاته تعالى منافيةٌ للسُّكوت الذي هو ترك التَّكلُّم مع القدرة عليه، والآفة التي هي عدم مطاوعة الآلة، إمَّا بحسب الفطرة كما في الخرس، أو بحسب صفتها وعدم بلوغها حدَّ القوَّة كما في الطُّفوليَّة، هو بها آمرٌ ناهٍ مخبرٌ وغير ذلك، يدلُّ عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة، فإذا عبَّر عنها بالعربيَّة فقرآنٌ وبالسِّريانيَّة فإنجيلٌ، وبالعبرانيَّة فتوراةٌ، والاختلاف على العبارات دون المسمَّى كما إذا ذُكِر الله بألسنةٍ متعدِّدةٍ ولغاتٍ مختلفةٍ، والحاصل أنَّه صفةٌ واحدةٌ تتكثَّر (٢) باختلاف التَّعلُّقات، كالعلم والقدرة وسائر الصِّفات، فإنَّ كلًّا منها واحدةٌ قديمةٌ، والتَّكثُّر والحدوث إنَّما هو في التَّعلُّقات والإضافات لما أنَّ ذلك أليق بكمال التَّوحيد، ولأنَّه لا دليل على تكثُّر كلٍّ منها في نفسها، وقد خالف جميع الفرق، وزعموا أنَّه لا معنى للكلام إلَّا المنتظم من الحروف المسموعة الدَّالَّة على المعاني المقصودة، وأنَّ الكلام النَّفسيَّ غير معقولٍ، ثمَّ قالت الحنابلة والحشويَّة: إنَّ تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتُّب بعضها على بعضٍ، وكون الحرف الثَّاني من كلِّ كلمةٍ مسبوقًا بالحرف المتقدِّم عليه، كانت ثابتةً في الأزل قائمةً بذات الباري -تعالى وتقدَّس- وإنَّ المسموع من أصوات القرَّاء والمرئيَّ من أسطر الكتاب نفس كلام الله، في كلامٍ طويلٍ، وتحقيق الكلام بينهم وبين أهل السُّنَّة يرجع إلى إثبات الكلام النَّفسيِّ ونفيه، وإلَّا فأهل السُّنَّة لا يقولون بقِدَم الألفاظ والحروف، وهم لا يقولون بحدوث كلامٍ نفسيٍّ، واستدلَّ أهل السُّنَّة على قِدَم كلامه تعالى وكونه نفسيًّا لا حسِّيًّا: بأنَّ المتكلِّم مَن


(١) في غير (د) و (س): «الحديث».
(٢) في (د): «تكثر».

<<  <  ج: ص:  >  >>