للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الجنين، فعلى هذا يكون وصفه تعالى بالرَّحمة مجازًا عن (١) إنعامه تعالى على عباده، كالملك إذا عطف على رعيَّته أصابهم خيره، وتكون على هذا التقدير صفة فعلٍ، لا صفة ذاتٍ، وقيل: الرَّحمة: إرادة الخير لمن أراد الله به ذلك، ووصفه بها على ذلك القول حقيقةٌ، وهي حينئذٍ صفةُ ذاتٍ، وهذا القولُ هو الظَّاهر، وقيل: الرَّحمة رقَّةٌ تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تستعمل تارةً في الرِّقَّة المجرَّدة، وتارةً في الإحسان المجرَّد، وإذا وُصِف بها الباري تعالى فليس يُراد بها إلَّا الإحسان المجرَّد دون الرِّقَّة، وعلى هذا روي: الرَّحمة من الله إنعامٌ وإفضالٌ، ومن الآدميِّين رقَّةٌ وتعطُّفٌ، وأمَّا ما روي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: «الرَّحمن الرَّحيم: اسمانِ رقيقان، أحدهما أرقُّ من الآخر» فلا يثبت؛ لأنَّه من رواية الكلبيِّ عن أبي صالحٍ عنه، والكلبيُّ متروكُ الحديث، ونقل البيهقيُّ عن الحسين بن الفضل البجليِّ أنَّه نسب راوي حديث ابن عبَّاسٍ إلى التَّصحيف، وقال: إنَّما هو الرَّفيق؛ بالفاء، أي: فهما اسمان رفيقان، أحدهما أرفق من الآخر، وقوَّاه البيهقيُّ بالحديث المرويِّ في مسلمٍ عن عائشة مرفوعًا: «إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العنف» واختُلِف هل «الرَّحمن الرَّحيم» بمعنًى واحدٍ؟ فقيل: بمعنًى واحدٍ، كندمان ونديم، فيكون الجمع بينهما تأكيدًا، وقيل: لكلِّ واحدٍ منهما فائدةٌ غير فائدة الآخر، وذلك بالنِّسبة إلى تغاير تعلُّقهما؛ إذ يقال: رحمن الدُّنيا ورحيم الآخرة؛ لأنَّ رحمته في الدُّنيا تعمُّ المؤمن والكافر، وفي الآخرة تخصُّ المؤمن، وقيل: الرَّحمن أبلغ؛ إذ لا يُطلَق إلَّا على الله سبحانه، وعلى هذا فالقياس أن يترقَّى إلى الأبلغ فيقول: رحيم رحمن، قال صاحب «التقريب»: إنَّما قدَّم أعلى الوصفين، والقياس تقديم أدناهما، كجوادٍ فيَّاضٍ؛ لأنَّ ذلك القياس فيما كان الثَّاني من جنس الأوَّل وفيه زيادةٌ، و «الرَّحمن» يتناول جلائل النِّعم وأصولها، و «الرَّحيم» دقائقها وفروعها، فلم يكن في الثَّاني زيادةٌ على الأوَّل، فكأنَّه جنسٌ آخر، فيقال: لِما ثبت أنَّ «الرَّحمن» أبلغ من «الرَّحيم» في تأدية معنى الرَّحمة المترقِّي (٢) من «الرَّحيم» إليه؛ لأنَّ معنى التَّرقِّي هو أن يُذكَر معنًى ثمَّ يُردَف بما هو أبلغ منه (٣)، وقال صاحب


(١) في (د) و (ع): «من».
(٢) في (د): «بالتَّرقِّي».
(٣) قال الشيخ قطة : قوله: «فيقال: لما ثبت … » إلى آخره، تأمله فإنه لا يناسب ما قبله، ولعله محرف والأصل: فحينئذ لم يثبت … إلى آخره، ليكون ملتئمًا مع ما قبله فتدبر.

<<  <  ج: ص:  >  >>