مرادًا -ولا إخاله- فإنه لا يختص بأحد المخالفين بل يجب عليه ما يجب على مخالفه، وتصبح كل مسائل الاجتهاد موضعًا للإنكار من الطرفين، فأنكر عليك، وتنكر عليَّ.
وأحسب أنهم يقصرون الإنكار على من يرونه قد خالف نصًّا صريحًا، أو إجماعًا، أو قاعدة شرعية مُسَلَّمة، بمعنى: حصر الإنكار على القول الضعيف البيِّن الضعف، وإنكار مثل هذا قد يحتمل.
على أنه قد يتوجه سؤال: من هو المؤهل ليكون حكمًا على اجتهادات طلبة العلم، ليقول: إن هذا القول ظاهر الضعف يجب إنكاره، وذاك قوي لا يجوز إنكاره، والمسألة خلافية بين الأئمة المتقدمين؟
فالعوام لا دخل لهم بهذا، بل ولا كثير من الخواص، كيف وأنت ترى بعض الخاصة ينكرون أقوالًا يراها الأئمة الأربعة؛ لاعتقادهم أنها مخالفة للنص، وهو وحده الذي يرى أن اجتهاداته لا تخرج عن النص.
والناس ثلاثة: مفرط متساهل يتطلب الأيسر؛ لكونه أيسر، وهذا لا اعتبار به.
ومتشدد يحمل الناس على الأشق في كل خلاف؛ لمجرد كونه أفضل أو أحوط، وحمل الناس على العزيمة فيما لهم فيه رخصة ليس من حق المجتهد. ودعوى أن الناس قد يتساهلون، فإذا كان الله قد وسع على عباده فلماذا أنت تضيق عليهم باسم المصلحة المتوهمة، فهذا القسم من الناس أيضًا ملحق بالأول.
وبينهما وسط، يفرق بين الاختيار للنفس:(إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)، وبين الاختيار للخلق:(إذا صلى أحدكم للناس فليخفف).
ولحديث عائشة:(ما خيِّر رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا). متفق عليه (١).
يقول قتادة بن دعامة: «﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾، قال: هؤلاء أصحاب نبيِّ الله ﷺ، لو أطاعهم نبيُّ الله ﷺ في
(١) رواه البخاري (٣٥٦٠)، ومسلم (٧٧ - ٢٣٢٧) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة ﵂.