في البلد الكبير يكثر أهل العلم والمعرفة بدلائل القبلة، فمن أجل أن يعلم أنه إنما نصب محرابه باجتهاد جمع من العلماء اشترط أن يكون ذلك في بلد كبير، سواء أكان عامرًا أم خرابًا.
ولهذا المعنى اشترط الشافعية في تقليد محراب القرية أن تكون بلدًا مطروقة يكثر المارون فيها؛ أو يتعاقب عليها قرون من المسلمين؛ لأن تكرار المارين أو تعاقب السنين دون أن يطعن في قبلتها أحد دليل على سلامتها من الخطأ.
ولا شك أن القرية الصغيرة قد لا يتواجد فيها أهل المعرفة بدلائل القبلة، فلما كان هذا الاحتمال قائمًا لم يكن اجتهاد أهل القرية فوق التحري، ولكن السؤال، هل هذا يجعل تقليده ليس واجبًا، وهو لا ينفي الجواز، أو يجعل تقليده ممتنعًا مع قيام هذا الاحتمال؟
هذا ينبني على خلاف تقدم: هل يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر، فمن أوجب عليه الاجتهاد، ومنعه من التقليد سيرى منعه من تقليد محراب القرية.
ومن يرى أن للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر، يكون تقليد محراب القرية من باب الجائز، وليس الواجب. وقد يُوجِدُ الباحث فرقًا بين المسألتين، ففي محراب القرية يكون مَنْ تولى نصب المحراب مجهولًا، فقد يكون مجتهدًا، وقد لا تتوفر فيه أهلية الاجتهاد، بخلاف تقليد المجتهد، والله أعلم، وعلى كل حال فإن مذهب الحنفية والحنابلة أضعف من مذهب المالكية والشافعية، والله أعلم.