للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:
مسار الصفحة الحالية:

ومما يدل على أن هذه الأقوال الخلافية محتملة أنك تجد أحيانًا أن الإمام أحمد أو الإمام مالكًا قد روي عنه أنه قال بجميع هذه الأقوال في المسألة، فلولا أن هذه الأقوال تحتملها الأدلة لما تنقل إمام واحد بينها حتى رويت عنه كلها، وليس هذا يعني أن الحق فيها كلها؛ فإن الصواب واحد، وما عداه خطأ.

ولا يعني ذلك: أننا نتخير منها ما نشاء بلا مرجح، وليس من المرجحات طلب الأيسر على المكلف؛ لكونه أيسر، ولكن لاحتمال الأدلة لكل قول من هذه الأقوال حفظ عن الإمام أنه قال بكل قول منها في مدة من اجتهاده، ثم انتقل عنه لغيره، ورجوع الإمام عنه لا يستلزم ضعفه، فقد ينتقل من الراجح إلى المرجوح أو العكس، وتقديم أصحاب الإمام بعض الروايات على بعض لا يلزم أن يكون هو المقدم في حكم الله تعالى، والأصح أن احتمال هذه الأدلة لهذه الأقوال كان سببًا في الأخذ بها من المجتهد حتى حفظ عنه أنه رويت عنه كل هذه الأقوال المختلفة.

ومما يدل على أن هذه الأقوال تحتملها الأدلة: أن المسائل الخلافية أكثر مسائل الفقه، وهي تعد بالآلاف، والصواب في كل مسألة منها واحد على الصحيح، وما عداه من الأقوال فهو في حكم الله خطأ، وذلك يعني: أن الأئمة وقعوا في آلاف الأخطاء، فلو كانت هذه الأخطاء لا تحتملها الأدلة، أو تركوا في كل هذه المسائل الالتزام بالنص لحط ذلك من قدرهم، ولنال ذلك من إمامتهم، ولكن حين كان القطع بالصواب غير ممكن التمس العذر للمخطئ منهم، وكان المجتهد مكلفًا بالأخذ بما يراه راجحًا، وتقديره يختلف من مجتهد لآخر، وكان ما يجب على أحد المجتهدين يخالف ما يجب على المجتهد الآخر إذا بذل وسعه وتحرى إصابة الحق.

أردت أن يكون هذا التنبيه بين يدي الكتاب حتى يلتمس طالب العلم العذر في بعض المسائل الخلافية إذا كان الترجيح فيها لم يكن موافقًا لما يراه أو يتمناه، أو مخالفًا لما أخذه عن شيخه، أو لكونه مخالفًا لما جرى عليه العمل وألفه في بلده منذ نعومة أظفاره، فالعمل ليس من أدلة الشرع، والعمل في مكان يعارضه العمل في مكان آخر، فلا يمكن أن يكون العمل مرجعًا للرد إليه، والعمل الذي جرى فيه الخلاف في الاحتجاج به هو عمل أهل المدينة زمن التابعين، والجمهور لا يعدونه حجة،

<<  <  ج: ص:  >  >>