لا يلزم من كون الكلام يتكون من حرفين أن يكون كل حرفين كلامًا، وقد أذن الشارع بالبصق في الصلاة مطلقًا، ولم يقيد الإباحة بأن يكون خاليًا من الحرف، والغالب على من بصق أن يخرج منه حرفان:(تف)، ومع ذلك لم تبطل به الصلاة، ولم يعتبر كلامًا، ولم يجر فيه القياس على الكلام، فكذلك البكاء، والله أعلم.
الوجه الثاني:
بينت فيما سبق أن الكلام هو: ما دل على معنى في نفسه أو مع غيره بمقتضى الوضع، وأما البكاء والأنين فهو ليس بكلام، ودلالته على المعنى إنما هو بالطبع، لا بمقتضى الوضع، كالإشارة يفهم منها معنى بقرينة، وليست كلامًا.
الدليل الثاني:
البكاء الأصل فيه أنه يبطل الصلاة مطلقًا؛ لأن فعله غير مطلوب في الصلاة، إلا أنه فرق فيه بين اليسير والكثير؛ وذلك لأن الكثير ولو كان غلبة أو نسيانًا أو جهلًا يخرج الصلاة عن هيئتها، وينتهك حرمة الصلاة بخلاف اليسير.
وقياسًا على العفو عن يسير النجاسة، وللتفريق بين الحركة الكثيرة واليسيرة في الصلاة.
وقياسًا على انكشاف اليسير من العورة في الصلاة، وحتى انكشاف الكثير في الزمن اليسير فإنه لا يبطل الصلاة على قول الحنفية والحنابلة فكذلك اليسير من البكاء إذا لم يتعمد.
• الراجح:
دلت النصوص على إباحة البكاء في الصلاة، وأن المصلي لو تطلبه في صلاته حتى بكى لم تفسد صلاته حتى ولو كان قادرًا على دفعه، ما لم يتصنعه المصلي؛ لأن تصنعه نوع من الكذب، وإظهار للتخشع، والحال ليس كذلك، وأما القول: إن الأصل في البكاء المنع إلا أن يكون غلبة فليس في النصوص ما يدل على ذلك، ولم ينقل في النصوص التي وقع فيها البكاء أن المصلي حاول دفعه وكتمه فلم يستطع، فالذي يظهر أنه استرسل مع البكاء حين خشع لسماع مواعظ القرآن، أو حين تضرع في دعائه ربه، والله أعلم.