للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كسرة، وهو فى كل مرّة يردّ عسكره أقبح ردّ، حتى انتصر عليه فى هذه المرّة.

ثم إنّ الأتابكى برقوق قبض على جمال الدين محمود، محتسب القاهرة، وسجنه بالاصطبل، من أجل أنّه بلغه عنه أنّه كان يبعث إلى الأمير بركة، بشئ من الأكل، ومن العليق، والمشرب، وهو بقبّة النصر.

فلما تحقّق الأمير بركة أنّ الكسرة عليه، اختفى فى بستان بالمطرية، حتى دخل الليل، فمشى (١) على أقدامه، وصحبته شخص من الأمراء العشرات، يقال له آقبغا صيوان، وكان من خواصّ أصحابه، فتوجّها مشاة إلى المطرية، إلى جامع المقسى، الذى بباب البحر، وكان به شخص من الصالحين يقال له الشيخ محمد القدسى، وكان للناس فيه اعتقاد، فاختفى عنده الأمير بركة، هو وآقبغا صيوان.

فلما طلع النهار، أرسل الأمير بركة يعرّف الأتابكى برقوق، بأنّه فى جامع المقسى، عند الشيخ محمد القدسى، وكان الأمير بركة يظنّ أنّ الأتابكى برقوق ما يقسو (٢) فى حقّه، وأن يولّيه نيابة الشام.

فجاء الأمر بحلاف ذلك، فإنّه كان خشداشه، وكلاهما من مماليك الأتابكى يلبغا العمرى، وكان برقوق ينام مع بركة على مخدّة واحدة، وكانا يسكنان (٣) فى اصطبل واحد، وهما أعظم من الأحوة الأشقّة (٤)؛ فلما أقبلت عليهما الدنيا، أفتنت (٥) بينهما، وأوقعت العداوة، كما قيل: «سئل بعض الحكماء كيف يمكن أنّ الصداقة تستحيل عداوة، ولا يمكن أنّ العداوة تستحيل صداقة؟ فقال: لأنّ خراب العامر أسهل من عمارة الخراب، وتكسير الزجاج أسهل من تصحيحه إذا تكسّر»؛ ولكن أفتنت (٥) الدنيا بين برقوق وبين بركة، كما يقال:

إذا امتحن الدنيا لعيب تكشّفت … له عن عدوّ فى ثياب صديق


(١) فمشى: فمشا.
(٢) يقسو: يقسى.
(٣) يسكنان: يسكنا.
(٤) الأشقة، يعنى: الأشقاء.
(٥) أفتنت بينهما، أى أشاعت الفتنة بينهما.