للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا من الجان؛ فاشتاع (١) أمر ذلك بين الناس، فارتجت القاهرة بسبب ذلك، وأتوا إلى بيت ابن الفيشى لسماع كلام الحائط، فصار الناس يقولون فى الطرقات: «يا سلام سلّم، الحائط يتكلّم».

وكاد أكثر الناس أن يفتتنوا بهذا الحائط، ولا سيما النساء، وصاروا يجلبون (٢) إلى ذلك الحائط أشياء كثيرة، من الطّيب والماورد ومن الزغفران، كل يوم على وجه النذر.

فلما سمع بذلك القاضى جمال الدين محمود العجمى، محتسب القاهرة، ركب وأتى إلى بيت ابن الفيشى، وطلع إلى الحائط، وحدّثه، فأجابه عن حديثه (٣) بما ضمر؛ فأمر المحتسب بهدم ذلك الحائط، فلما هدم لم ير خلفه شيئا، فتعجّب من ذلك غاية العجب.

ثم بعد هدم الحائط أرسل يكشف عن أمره، هل انقطع الكلام بعد هدم الحائط أم لا؟ فردّ عليه الخبر أنّ الكلام باقى على حكمه، فتحيّر المحتسب من ذلك؛ ثم ركب ثانيا، وأتى إلى بيت ابن الفيشى، وجلس عند ذلك الحائط، وقرأ شيئا (٤) من القرآن، ثم أحضر صاحب البيت، وقال له: «قل لهذا المتكلّم، القاضى جمال الدين، المحتسب، يسلّم عليك»، فقال له صاحب البيت: «يا سيدى الشيخ، القاضى المحتسب يسلّم عليك»، فقال الحائط: «وعليه السلام ورحمة الله وبركاته»، فقال المحتسب: «قل له إنّ هذا فتنة للناس منك، وما هو جيّد»، فقال الحائط: «ما بقى بعد هذا كلام»، ثم سكت، فلم يتكلّم.

فصار الزوّار يقولون: «يا سيدى الشيخ تكلّم»، فلم يتكلّم بعد ذلك، وكان فى صوته غلظ يوهم أنّه ليس بكلام إنسىّ؛ فلما أيس (٥) من معرفة ذلك، قام وخرج من البيت، وقد اشتدّت فتنة الناس بالحائط، حتى كادوا أن يعبدوه من عظم


(١) فاشتاع: كذا فى الأصل، ويقصد: فشاع.
(٢) يجلبون: يجلبوا.
(٣) حديثه: حدثه.
(٤) شيئا: شئ.
(٥) أيس، من اليأس.