للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأقام المأمون هناك يوما وليلة، وهو فى أرغد عيش، فلما أراد الانصراف، أقبلت عليه تلك العجوز، ومعها عشرة من الوصائف، وعلى رأس كل واحدة منهن طبق، فلما عاينها المأمون من بعيد قال لمن حوله: «قد جاءتكم القبطية بهديّة الريف: الكامخ والصحنا».

فلما وضعت الأطباق بين يديه، كشفها، فإذا فيها ذهب، دنانير، فشكرها على ذلك، وأمرها بإعادته إليها، وقال: «فيما صنعته كفاية»؛ فقالت له: «يا أمير المؤمنين، لا تشمت بى أعدائى بردّه إلىّ»، وبكت، فقال المأمون: «قبلنا منك ذلك»؛ ثم تأمّل ذلك الذهب، فإذا هو ضرب عام واحد جميعه، فتعجّب من ذلك غاية العجب، وقال: «ربما يعجز بيت ما لنا عن مثل ذلك»، ثم قال لها:

«أيتها العجوز، أظفرت (١) بكنز»؟ قالت: «لا والله، وإنما هو من زرع الأرض، ومن عدلك يا أمير المؤمنين»؛ فقال لها: «بارك الله فى مروءتك وفيما صنعت (٢)».

ثم إنّ المأمون أنعم على تلك العجوز بقرية تسمى طاه النمل، وجعلها لها ملكا، ولأولادها من بعدها، وهناك قنطرة تسمّى قنطرة العجوز إلى الآن.

ثم إنّ المأمون أقام بمصر أربعين يوما، ورحل عنها لثمانية عشر خلون من صفر، من السنة المذكورة، فكانت مدّة غيبته ذهابا وإيابا، نحو أربعة أشهر وأيام، ودخل عليه من المال فى هذه السرحة، نحو أربعة آلاف ألف ألف دينار، غير الهدايا والتحف، ففرّق على عسكره، لما رجع إلى بغداد، لكل واحد منهم ملء كفّه دنانير ذهبا.

وصار فى كل وقت يذكر ما جرى له مع مارية القبطية، ويتعجّب مما صنعته معه، ومن سعة مالها، وكبر مروءتها، ويقول: «الحمد لله الذى فى رعيّتنا من هو بهذه الصفة»، وقد قيل فى المعنى:

أظنّ بأنّ الدهر ما زال هكذا … وأنّ حديث الجود ليس له أصل


(١) أظفرت: أظفرتى.
(٢) صنعت: صنعتى.