للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما خمدت هذه الفتنة، سرح المأمون فى ضواحى مصر، فكان يقيم فى كل قرية يوما وليلة، ثم يرحل عنها، فكان إذا نزل بقرية، يضرب له سرادق من حرير، ويجلس على دكّة من الأبنوس مطعّمة بفضّة، وينصب له عليها لواء من حرير أسود، مرقوم بالذهب، وتحاط به الوزراء والأمراء من كل جانب.

فلم يزل على ذلك، حتى مرّ بقرية من قرى مصر، يقال لها طاه النمل، فمرّ عليها ولم ينزل بها، فلما جاوزها وحاد عنها، خرجت إليه عجوز قبطية، وهى ترعش بين خادمين، وكانت تعرف بمارية القبطية، فوقفت بين يديه، وبكت وصاحت، فظنّ المأمون أنّها مظلومة، ووقف لها، وكان لا يسير إلا والتراجمة بين يديه، من كل جنس بلسانه، فسألها بعض التراجمة عن أمرها، فقالت: «إن أمير المؤمنين ينزل بكل قرية من قرى مصر، ويقيم بها يوما وليلة، وقد حاد عن قريتى، ولم ينزل بها، حتى أصير معيرة بين القبط بذلك».

فلما ترجم له الترجمان بما قالته العجوز، قال له المأمون: «إنّ قريتها صغيرة لا تحمل العسكر، ولا تطيق هذه العجوز كلفتنا»؛ فرد عليها الترجمان الخبر، فصاحت وقالت: «لا سبيل أن يتجاوز أمير المؤمنين قريتى»؛ فعند ذلك ثنى المأمون عنان فرسه، ونزل بقريتها، وضرب بها خيامه.

فلما استقر بها ومن معه من العساكر، جاء ولد تلك العجوز إلى صاحب المطبخ، وقال له: «اذكر لى ما تحتاج إليه من غنم، وبقر، ودجاج، وأفراخ السمك، وأوز، وسكّر، وعسل، وفستق، ولوز، وفاكهة، وحلوى، ومسك، وماورد، وشمع، وبقولات، وغير ذلك، مما جرت به عادة (١) الخلفاء».

فلما ذكر له صاحب المطبخ ما يحتاج إليه، فغاب ساعة يسيرة، وأحضر له جميع ما يحتاج إليه من تلك (٢) الأصناف، التى ذكرها له؛ ثم أحضر لأقارب المأمون، لكل واحد منهم ما يخصّ به على انفراده.


(١) عادة: عادت.
(٢) تلك: ذلك.