للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دينارين على كل رأس، فأرسل عمرو يقول للمقوقس: «ليس بينى وبينك إلا ثلاث خصال: إما تدخل فى الإسلام، وإما تعطى الجزية، وتكون آمنا على نفسك من القتل، وإما تقاتلنا ونقاتلك».

قال الليث بن سعد: أقام عمرو بن العاص يحاصر الحصن ستة أشهر، فلما جاءت رسل عمرو إلى المقوقس بهذا الجواب، قال لمن حوله من القبط: «كيف رأيتم (١) فى هذا الأمر»؟ قالوا: «إنّ هؤلاء (٢) القوم لا طاقة (٣) لنا بهم، فإنّ الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحبّ إليهم من الرفعة، وليس لأحدهم فى الدنيا رغبة، يجلسون على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، لا يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا يعرف السيّد من العبد، فإن لم تغتنموا صلحهم، وهم محصورون، فلم يجيبونا بعد ذلك إلى الصلح».

ثم إنّ المقوقس أرسل إلى عمرو يقول له: «أرسل إلينا أحدا من عقلائكم، حتى نتكلّم معه، ما يكون فيه أمر الصلح بيننا وبينكم»؛ وكان المقوقس فى الجزيرة، وهى الروضة، وكان بها قصر مطلّ على البحر، يسمّى الهودج، تتنزه فيه ملوك مصر من القبط، فبعث إليه عمرو بن العاص عشرة من الصحابة، وكبيرهم عبادة بن الصامت، ، وكان أسود اللون، وقيل المقداد بن الأسود.

فلما دخلوا على المقوقس استصغر قدر عبادة بن الصامت لسواده، فقال المقوقس: «نحّوا عنى هذا الأسود، وقدّموا غيره يكلّمنى»، فقالوا: «هذا الأسود أفضلنا، وهو سيّدنا»، فقال المقوقس لعبادة: «تقدّم يا أسود، وكلّمنى برفق، فإنّى أهاب سوادك»؛ فتقدّم عبادة إليه، وقال: «قد بعثنا الأمير عمرو على إحدى الثلاث خصال المقدّم ذكرها، ولا تمّ لها وجه رابع».

فقال المقوقس: «إنّ عساكر الروم ما لا يحصى عددهم، وأنا أخشى أن يقع بينكم القتال، فيقتلونكم (٤) عن آخركم، وقد طابت أنفسنا أن نصالحكم، صونا لنا ولكم


(١) رأيتم: رأيتموا.
(٢) هؤلاء: هذا.
(٣) طاقة: طاقت.
(٤) فيقتلونكم: فيقتلوكم.