للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أعماله ردّت عليه بما جنى … والدهر جازاه بأمر قدّرا

وكان للغورى محاسن ومساوى لكن مساوئه أكثر من محاسنه، فأما ما عدّ من محاسنه فإنه كان رضى الخلق يملك نفسه عند الغضب وليس له بادرة بحدّة عند قوة خلقه، ومنها أنه كان له الاعتقاد الزائد فى الصالحين والفقراء، ومنها أنه كان يعرف مقادير (١) الناس على قدر طبقاتهم، ومنها أنه كان ماسك اللسان عن السب للناس فى شدة غضبه، ومنها أنه كان يفهم الشعر ويحب سماع الآلات والغناء وله نظم على اللغة التركية، وكان مغرما بقراءة التواريخ والسير ودواوين الأشعار، وكان قريبا من الناس يحب المزح والمجون فى مجلسه غير كثيف الطبع فى ذاته، وكان عنده لين جانب ورياضة بخلاف طبع الأتراك ولم يكن عنده شمم ولا تكبر نفس ولا رقاعة زائدة بخلاف عادة الملوك فى أفعالهم (٢).

وأما ما عدّ من مساوئه فإنها كثيرة لا تحصى، منها أنه أحدث فى أيام دولته من أنواع المظالم ما لا حدثت فى سائر الدول من قبله، ومنها أن معاملته فى الذهب والفضة والفلوس الجدد أنحس المعاملات، جميعها زغل ونحاس وغش لا يحل صرفها ولا يجوز فى ملّة من الملل، ومنها ما قرره على الحسبة فى كل شهر وهو مبلغ ألفين وسبعمائة دينار فكانت السوقة تبيع البضائع بما تختاره من الأثمان ولا يقدر أحد يكلمهم فيقولون: علينا مال السلطان، فكانت سائر البضائع فى أيامه غالية بسبب ذلك، وقرر على دار الضرب مالا له صورة فى كل شهر فكانوا يصنعون فى الذهب والفضة النحاس والرصاص جهارا، فكان الأشرفى الذهب إذا صفوه يظهر فيه ذهب يساوى اثنا عشر نصفا، وقد سلّم السلطان دار الضرب إلى شخص يسمى جمال الدين فلعب فى أموال المسلمين وأتلف المعاملة وسبك ذهب السلاطين المتقدمة حتى صار لا يلوح لأحد من الناس منهم لا دينار ولا درهم، فلما شنق جمال الدين قرّر فى دار الضرب المعلم يعقوب اليهودى فمشى على طريقة جمال الدين، وقد استباح أموال المسلمين فكان النصف الفضة ينكشف فى ليلته ويصير من جملة الفلوس الحمر، فاستمرّ الغش فى معاملته فى مدة دولته إلى أن مات، وقد ورد فى الحديث الشريف: من غشّنا


(١) مقادير: مقادرير.
(٢) أفعالهم: أفعالها.