هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة وهو كالفصل من سابقه (﴿وإذ قالت الملائكة﴾) جبريل وحده لدلالة ما في سورة مريم على أن المتكلم معها جبريل حيث قال الله: ﴿فأرسلنا إليها روحنا﴾ [مريم: ١٧](﴿يا مريم إن الله اصطفاك﴾) بأن قبلك للنذيرة ولم يقبل أنثى غيرك وتفريغك للعبادة وإغنائك برزق الجنة عن الكسب (﴿وطهّرك﴾) مما يستقذر من النساء (﴿واصطفاك﴾) بالهداية وإرسال جبريل إليك وتخصيصك بالكرامات السنية كالولد من غير أب وتبرئتك مما قذفتك اليهود بإنطاق الطفل (﴿على نساء العالمين﴾) وقد دلت هذه الآية على أنها أفضل من سائر النساء (﴿يا مريم اقنتي لربك﴾) اعبديه ﴿واسجدي﴾ صلي، وتسمية الشيء بأشرف أجزائه مجاز مشهور (﴿واركعي مع الراكعين﴾) لم يقل مع الراكعات لأن الاقتداء بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء، وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو أن الواو لا تقتضي ترتيبًا (﴿ذلك﴾) مبتدأ أي ما ذكر من القصص خبره (﴿من أنباء الغيب﴾) وجملة (﴿نوحيه إليك﴾) مستأنفة والضمير في نوحيه إليك عائد على الغيب أي الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والإخبار، ولذلك أتى بالمضارع في نوحيه (﴿وما كنت لديهم﴾) بحضرتهم (﴿إذ يلقون أقلامهم﴾) أي سهامهم للاقتراع أو أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركًا ينظرون أو يقولون (﴿أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون﴾)[آل عمران: ٤٢ - ٤٣ - ٤٤] تنافسًا في كفالتها إما لأن أباها عمران كان رئيسًا لهم، أو لأن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيته، وسقط لأبي ذر من قوله ﴿وطهرك﴾ إلى آخر قوله ﴿أقلامهم﴾ وقال بعد (اصطفاك) الآية إلى قوله (أيهم).
(يقال: ﴿يكفل﴾) أي (يضم كفلها) أي (ضمها) زكريا إلى نفسه حال كون كفلها (مخففة) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر، وقراءة الكوفيين بالتشديد أي كفلها الله تعالى ولا مخالفة بين القراءتين لأن الله تعالى لما كفلها إياه كفلها (ليس من كفالة الدّيون) بالجمع وفي نسخة الدين (وشبهها). قال في اللباب: الكفالة الضمان في الأصل ثم يستعار للضم والأخذ يقال منه كفل يكفل وكفل كعلم يعلم كفالة، وكفلاً فهو كافل وكفيل والكافل هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله.