الَّذِي قُلْنَا لِمَا فِي لِبَاسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ، وَصَرْفِ مَا فَضَل بَيْنَهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْل الْحَاجَةِ فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً، وَذَلِكَ أَنَّ الأَْوْلَى بِالإِْنْسَانِ صَلاَحُ نَفْسِهِ وَعَوْنُهُ لَهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهَا، وَلاَ شَيْءَ أَضَرُّ لِلْجِسْمِ مِنَ الْمَطَاعِمِ الرَّدِيئَةِ؛ لأَِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِعَقْلِهِ وَمُضْعِفَةٌ لأَِدَوَاتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا إِلَى طَاعَتِهِ.
وَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقَال: لِي جَارٌ لاَ يَأْكُل الْفَالُوذَجَ فَقَال: وَلِمَ؟ قَال: لاَ يُؤَدِّي شُكْرَهُ، فَقَال الْحَسَنُ: أَفَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَقَال: نَعَمْ، فَقَال: إِنَّ جَارَك جَاهِلٌ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَالُوذَجِ (١) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَمَا شَهْوَةُ الأَْشْيَاءِ اللَّذَّةُ وَمُنَازَعَةُ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الأَْنْوَاعِ الشَّهِيَّةِ، فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي تَمْكِينِ النَّفْسِ مِنْهَا مُخْتَلِفَةٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى صَرْفَ النَّفْسِ عَنْهَا وَقَهْرَهَا عَنِ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أَحْرَى لِيُذِل قِيَادَهَا وَيَهُونَ عَلَيْهِ عِنَادُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَادَ يَصِيرُ أَسِيرَ شَهَوَاتِهِ وَمُنْقَادًا بِانْقِيَادِهَا.
وَقَال آخَرُونَ: تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنِ ارْتِيَاحِهَا وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ إِرَادَتِهَا. وَقَال آخَرُونَ: بَل التَّوَسُّطُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى لأَِنَّ فِي عَطَائِهَا ذَلِكَ مَرَّةً وَمَنْعِهَا أُخْرَى جَمْعًا بَيْنَ
(١) القرطبي - سورة المائدة ٦ / ٢٥٩.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute