فكتب إليه أبو المطرف: طارحتني حديث أمر خف، وقطين خف، فيا لله لأتراب درجوا، ولأصحاب عن الأوطان خرجوا، قُصّت الأجنحة، وقيل طيروا، وإنما هو القتل أو الأسر، أو تسيَّروا، فافترقوا أيدي سبا، وانتثروا على الوهاد والرُّكى، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، وبكل عين عبرة لا ترقى من أجلها عبرة، داءٌ خامر بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجّى على موتاها، وشجى شوقها الأطول كهلها وفتاها، فكانت تلك الحطمة ظلّ الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب، أثكلتنا إخواننا أثكالا بغيِّهم، ولله أحوذيهم وألمعيهم، ذاك أبو ربيعنا وشيخ جميعنا، سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يوده في أهله وقومه، وبعد ذلك أخذ من الألم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرّونق، وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل وكفت على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركنة، كما انعطفت ألفا، فأودت الخفّة والحصافة، وذهب الجسر والرصافة، ومزّقت الحلّة والشملة، وأوحشت الحرة والرملة، ونزلت بالجارة وقعة الحرّة، وحصلت الكنيسة من جاذرها وظبائها على طول الحسرة، فأين الخمائل ونظرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وسحوب معتلها، دارٌ ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطلّ في أعينها، ترددها وحميرتها، ثم زحفت كنيسة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها، فآه لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كلمه، وبالجنة أجرى الله النهر تحتها، وروضة أجاد أبو إسحاق نعتها، وإنما كانت دارًا على أوصاف محاسنها أكب، وفيها أتته منيَّته كما أحب، ولم تعدم بعده محبين تشبيبهم إليها ساقوه ودمعهم عليها أراقوه (١).
(١) انظر الرسالة في الروض المعطار: (٩٨)، ونفح الطيب: (٤/ ٤٩٢ - ٤٩٣).