للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

روى البخاري ومسلم قال: أتى النبيّ رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم! أبلغك أن الله تعالى يحمل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع؟ فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه فأنزل الله ﷿: ﴿وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (١) [الزمر: ٦٧].

وروي عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله يقول: «إن قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث شاء» ثم قال رسول الله : «اللهم مصرّف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» (٢). ومثله كثير.

قيل له: اعلم أن الأصبع قد يكون بمعنى الجارحة؛ والله تعالى يتقدس عن ذلك، ويكون بمعنى القدرة على الشيء، ويسارة تقليبه، كما يقول من استسهل شيئا واستخفه مخاطبا لمن استثقله: أنا أحمله على إصبعي وأرفعه بإصبعي، وأمسكه بخنصري. وكما يقول من أطاع بحمل شيء: أنا أحمله على عيني، وأفعله على رأسي. يعني به الطواعية وما أشبه ذلك. قد قال في معناه وهو كثير، ومما قال عنترة وقيل ابن زيادة التيمي:

الرمح لا أملأ كفي به … واللبد لا أتبع تزواله

يريد أنه لا يتكلف أن يجمع كفه فيشتمل على الرمح، لكن يطعن به خلسا بأصابعه لخفة ذلك عليه. وقوله: لا أتبع تزواله، أي: إذا مال لم أمل معه.

يقول: أنا ثابت على ظهر الخيل لا يضرني فقد بعض الآلة، ولا تغير السرج عما يريده الراكب، يصف نفسه بالفروسية في الركوب والطعن. فلما كانت السموات والأرض أعظم الموجودات قدرا وأكبرها خلقا؛ كان إمساكها بالنسبة إلى الله تعالى كالشيء الحقير الذي نجعله نحن بين أصابعنا ونهزه بأيدينا، ونتصرف فيه كيف شئنا فتكون الإشارة بقوله: «ثم يقبض أصابعه ويبسطها» وبقوله: «ثم يهزهن» كما جاء في بعض طرق مسلم وغيره. أي: هي في قدرته كالحبة مثلا في كفّ أحدنا التي لا نبالي بإمساكها ولا بهزها ولا تحريكها، ولا القبض والبسط عليها، ولا نجد في ذلك صعوبة ولا مشقة، وقد يكون الأصبع أيضا في كلام العرب بمعنى النعمة، وهو المراد بقوله : «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من


(١) أخرجه البخاري (٧٤١٥) ومسلم (٢٧٨٦).
(٢) تقدّم تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>