فينتهرانه عند ذلك انتهارا يرى أن أوصاله تفرقت، وعروقه قد تقطعت، ويقولان له: يا هذا تثبت، يا هذا انظر ما تقول. فيثبته الله عنده بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويلقنه الأمان ويدرأ عنه الفزع، فلا يخافهما، فإذا فعل ذلك بعبده المؤمن استأنس إليهما، وأقبل عليهما بالخصومة يخاصمهما ويقول: تهدداني كيما أشك في ربي وتريداني أن اتخذ غيره وليّا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وهو ربي وربكما، ورب كل شيء، ونبي محمد وديني الإسلام؟ ثم ينتهرانه ويسألانه عن ذلك فيقول: ربي الله فاطر السموات والأرض، إياه كنت أعبد ولم أشرك به شيئا، ولم أتخذ غيره أحدا ربّا، أفتريدان أن ترداني عن معرفة ربي وعبادتي إياه؟ نعم هو الله الذي لا إله إلا هو. قال: فإذا قال ذلك ثلاث مرات مجاوبة لهما؛ تواضعا له حتى يستأنس إليهما أنس ما كان في الدنيا إلى أهل ودّه، ويضحكان إليه ويقولان له: صدقت وبررت، أقرّ الله عينيك وثبتك، أبشر بالجنة وبكرامة الله، ثم يدفع عنه قبره هكذا وهكذا، فيتسع عليه مدّ البصر ويفتحان له بابا إلى الجنة فيدخل عليه من روح الجنة، وطيب ريحها ونضرتها في قبره ما يتعرف به كرامة الله تعالى، فإذا رأى ذلك استيقن بالفوز فحمد الله، ثم يفرشان له فراشا من إستبرق الجنة، ويضعان له مصباحا من نور عند رأسه، ومصباحا من نور عند رجليه يزهران في قبره، ثم تدخل عليه ريح أخرى، فحين يشمها يغشاه النعاس فينام، فيقولان له: ارقد رقدة العروس قرير العين لا خوف عليك ولا حزن، ثم يمثلان عمله الصالح في أحسن ما يرى من صورة، وأطيب ريح فيكون عند رأسه، ويقولان: هذا عملك وكلامك الطيب قد مثّله الله لك في أحسن ما ترى من صورة، وأطيب ريح، ليؤنسك في قبرك فلا تكون وحيدا، ويدرأ عنك هوام الأرض وكل دابة وكل أذى، فلا يخذلك في قبرك ولا في شيء من مواطن القيامة، حتى تدخل الجنة برحمة الله تعالى، فنم سعيدا طوبى لك وحسن مآب. ثم يسلمان عليه ويطيران عنه» (١). وذكر الحديث وما يلقى الكافر من الهوان الشديد والعذاب الأليم وحسبك بما تقدم.
قلت: وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال؛ لأنه يروي عن عمرو بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، فهو حديث مرتب على أحوال مبينة، ومحتو على أمور مفسرة.
[فصل]
قوله:«أتاك فتّانا القبر منكر ونكير».
إنما سمّيا فتّاني القبر؛ لأن في سؤالهما انتهارا، وفي خلقهما صعوبة. ألا ترى أنهما سمّيا منكرا ونكيرا؟ فإنما سمّيا بذلك لأن خلقهما لا يشبه خلق
(١) لا يصح؛ أشار المصنف إلى أن الإسناد فيه مقال، والله أعلم.