إذ ذاك شيخ الإقراء بدمشق والشيخ كمال الدين بن الزملكاني وغيرهما واجتمعوا بالقاضي فأخبرني شيخنا شرف الدين أحمد بن الكفري قال: أنا كنت مع الشيخ التونسي حين دخل إلى قاضي القضاة ابن صصرى قال: فطلب ابن بضحان بحضوري وتكلم معه في ذلك فلم يرجع فمنعه من الإقراء حتى يوافق الجمهور فتألم لذلك، وامتنع من الإقراء مطلقا، ولبث مدة، ثم أنه أمّ بمسجد أبي الدرداء بقلعة دمشق، فكان الناس يقصدونه لسماع تلاوته وحسن أدائه وتجويده، ثم أنه تصدر للإقراء بالجامع عند رأس يحيى بن زكريا ﵉، ورجع عما أخذ عليه، فازدحم الخلق عليه وقصده القراء من الآفاق وتنافسوا في الأخذ عنه، ولما خلت المشيخة الكبرى بتربة أم الصالح عن الشيخ التونسي وليها من غير طلب منه، بل لكونه أعلم أهل البلد بالقراءات عملا بشرط الواقف، فكان يسكن بقاعته بدرب العجم قريب الحمام، ويصلي بالجامع، ثم يحضر المشيخة من الظهر إلى العصر في أيام الأشغال، ويجلس للإقراء وهو في غاية التصميم لا يتكلم ولا يلتفت ولا يبصق ولا يتنحنح، وكذلك من عنده، ويجلس القارئ عليه، وهو يشير إليه بالأصابع، لا يدعه يترك غنة ولا تشديدا ولا غيره من دقائق التجويد حتى يأخذه عليه، ويرده إليه، وإذا نسي أحد وجها من وجوه القراءة يضرب بيده على الحصير، فإن أفاق القارئ ورجع إلى نفسه أمضاه له، وإلا لا يزال يقول: للقارئ ما فرغت حتى يعيّيه فإذا عييّ رد عليه الحرف، ثم يكتبه عليه، فإذا ختم وطلب الإجازة سأله عن تلك المواضع التي نسيها أو غلط فيها في سائر الختمة فإن أجاب عنها بالصواب كتب له الإجازة وإن نس قال له: أعد الختمة فلا أجيزك على هذا الوجه، وهكذا كان دأبه على هذه الحال بحيث أنه لم يأذن لأحد سوى اثنين وهما السيف الحريري وابن نحلة حسب لا غير في جميع عمره مع كثرة من قرأ عليه وقصده من الآفاق، وكان مع ذلك دينا صلفا، حسن الهيئة، نزها، لا يتردد إلى أحد، ولا يلتفت إلى غير ما هو بصدده، ولا يطلب وظيفة ولا جهة، وكان يكتب الغيبة بيده على نفسه بتربة أم الصالح، وإذا جاءه المعلوم نظر فيها وقطع من المعلوم نظير الغيبة ورده، هكذا بلغنا من أصحابه، ولكن كان له خلق بذاته، ورأي وحده، وله بعض ملك مخلّف عن والده، وكان مع ذلك حسن الصوت، جيد التلفظ، قيما بالتجويد، شرح