للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

«فيها» ﴿البقرة: ٣٠﴾. و يقول موسى: «أتهلكنا بما فعل السفهاء منا» ﴿الاعراف: ١٥٥﴾.

إنما هذه الكلمة جعلها الصوفية ترفيها لقلوب المتقدمين، وسلطنة سلكوها على الأتباع والمريدين. كما قال تعالى: «فاستخف قومه فأطاعوه» ﴿الزخرف: ٥٤﴾. و لعل هذه الكلمة من القائلين منهم بأن العبد إذا عرف لم يضره ما فعل. و هذه نهاية الزندقة، لأن الفقهاء أجمعوا على أنه لا حالة ينتهي إليها العارف إلا ويضيق عليه التكليف، كأحوال الأنبياء يضايقون في الصغائر. فالله الله في الإصغاء إلى هؤلاء الفراغ (١) الخالين من الإثبات. وإنما هم زنادقة جمعوا بين مدارع (٢) العمال مرقعات وصوف، وبين أعمال الخلعاء المخلدة أكل وشرب و رقص وسماع و إهمال لأحكام الشرع. و لم تتجاسر الزنادقة أن ترفض الشريعة حتى جاءت المتصوفة، فجاؤوا بوضع أهل الخلاعة.

فأول ما وضعوا أسماء، و قالوا: حقيقة وشريعة. وهذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق. فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين. و كل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور مخدوع. و إن سمعوا أحدا يروي حديثا قالوا: مساكين، أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فمن قال: حدثني أبي عن جدي، قلت: حدثني قلبي عن ربي فهلكوا و اهلكوا بهذه الخرافات قلوب الأغمار (٣)، و أنفقت عليهم لأجلها الأموال. لأن الفقهاء كالأطباء، والنفقة في ثمن الدواء صعبة، والنفقة على هؤلاء كالنفقة على المغنيات.

وبعضهم الفقهاء أكبر الزندقة، لأن الفقهاء يخطرونهم بفتاويهم عن ضلالهم و فسقهم. والحق يثقل كما تثقل الزكاة. و ما أخف البذل على المغنيات وإعطاء الشعراء على المدائح. وكذلك بغضهم لأصحاب الحديث. وقد أبدلوا إزالة العقل بالخمر، بشيء سموه الحشيش والمعجون، والغناء المحرم سموه: السماع والوجد، والتعرض بالوجد المزيل للعقل حرام، كفى الله الشريعة هذه الطائفة الجامعة بين دهمسة (٤) في اللبس و طيبة.


(١) من الفراغ.
(٢) المدرعة: الجبة.
(٣) الأغمار - من لم يجربوا الأمور.
(٤) الدهمسة: السرار وأمر مدهمس: مستور.

<<  <   >  >>