للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبرد. فأين جوع بشر، وأين ورع سرى، وأين جد الجنيد. وهؤلاء أكثر زمانهم ينقضي في التفكة بالحديث أو زيارة أبناء الدنيا، فإذا أفلح أحدهم أدخل رأسه في زرمانقته (١) فغلبت عليه السوداء، فيقول: حدثني قلبي عن ربي. ولقد بلغني أن رجلا قرأ القرآن في رباط فمنعوه، وأن قوما قرأوا الحديث في رباط، فقالوا لهم: ليس هذا موضعه. والله الموفق.

ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الخروج عن الأموال والتجرد عنها

كان إبليس يلبس على أوائل الصوفية لصدقهم في الزهد فيريهم عيب المال ويخوفهم من شره، فيتجردون من الأموال ويجلسون على بساط الفقر، وكانت مقاصدهم صالحة وأفعالهم في ذلك خطأ لقلة العلم، فأما الآن فقد كفى إبليس هذه المؤنة، فان أحدهم إذا كان له مال أنفقه تبذيرا وضياعا، والحديث بإسناد عن محمد بن الحسين السليمي، قال: سمعت أبا نصر الطوسي، قال: سمعت جماعة من مشايخ الري يقولون: ورث أبو عبد الله المقري من أبيه خمسين ألف دينار سوى الضياع والعقار فخرج عن ذلك كله وأنفقه على الفقراء.

وقد روى مثل هذا عن جماعة كثيرة وهذا الفعل لا ألوم صاحبه إذا كان يرجع إلى كفاية قد أدخرها لنفسه، أو إن كانت له صناعة يستغني بها عن الناس، أو كان المال عن شبهة فتصدق به، فأما إذا أخرج المال الحلال كله ثم احتاج إلى ما في أيدي الناس وأفقر عياله، فهو إما أن يتعرض لمنن الأخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الظلم والشبهات، فهذا هو الفعل المذموم المنهي عنه. ولست أتعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم، وإنما العجب من أقوام لهم عقل وعلم كيف حثوا على هذا وأمروا به مع مصادمته للعقل والشرع، وقد ذكر الحارث المحاسبي في هذا كلاما طويلا، وشيده أبو حامد الغزالي ونصره والحارث عندي أعذر من أبي حامد لأن أبا حامد كان أفقه غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه.

فمن كلام الحارث المحاسبي في هذا أنه قال: أيها المفتون متى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد أزريت بمحمد والمرسلين وزعمت أن محمدا لم ينصح الامة اذ


(١) الزرمانقة: حبة من صوف، معرب «أشتربائه» أي متاع الجمال.

<<  <   >  >>