للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذكر تلبيسه على الدهرية

قال المصنف: قد أوهم إبليس خلقا كثيرا أنه لا إله ولا صانع. وأن هذه الأشياء كانت بلا مكون. وهؤلاء لما لم يدركوا الصانع بالحس ولم يستعملوا في معرفته العقل جحدوه. وهل يشك ذو عقل في وجود صانع؟ فإن الانسان لو مر ببقاع ليس فيه بنيان ثم عاد فرأى حائطا مبنيا علم أنه لا بد له من بان بناه. فهذا المهاد (١) الموضوع، وهذا السقف المرفوع (٢). وهذه الأبنية العجيبة والقوانين الجارية على وجه الحكمة، أما تدل على صانع؟ وما أحسن ما قال بعض العرب: إن البعرة تدل على البعير. فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على اللطيف الخبير؟ ثم لو تأمل الإنسان نفسه لكفت دليلا، ولشفت غليلا. فإن في هذا الجسد من الحكم ما لا يسع ذكره في كتاب. ومن تأمل تحديد (٣) الأسنان لتقطع، وتفريض (٤) الأضراس لتطحن، واللسان يقلب الممضوغ، وتسليط الكبد على الطعام ينضجه، ثم ينفذ الى جارحة قدر ما تحتاج إليه من الغذاء. وهذه الأصابع التي هيئت فيها العقد لتطوي وتنفتح، فيمكن العمل بها. ولم تجوف لكثرة عملها اذ لو جوفت الصدم. الشيء القوى فكندها (٥). وجعل بعضها أطول من بعض لتستوي إذا ضمت. وأخفى في البدن ما فيه قوامه وهي النفس التي إذا ذهبت فسد العقل الذي يرشد إلى المصالح. وكل شيء من هذه الأشياء ينادي أفي الله شك. وإنما يخبط الجاحد لأنه طلبه من حيث الحس. ومن الناس من جحده لأنه لما أثبت وجوده من حيث الجملة لم يدركه من حيث التفصيل فجحد أصل الوجود. ولو أعمل هذا فكره لعلم أن لنا أشياء لا تدرك إلا جملة كالنفس والعقل. ولم يمتنع أحد من إثبات وجودهما. وهل الغاية إلا إثبات الخلق جملة؟ وكيف يقال: كيف هو أو ما هو ولا كيفية له ولا ماهية. ومن الأدلة القطعية على وجوده أن العالم حادث بدليل أنه يخلو من الحوادث. وكل ما لا ينفك عن الحوادث حادث ولا بد لحدوث هذا الحادث من مسبب وهو الخالق سبحانه. وللملحدين اعتراض يتطاولون به على قولنا لا بد للصنعة من صانع فيقولون: إنما تعلقتم في


(١) أي الارض.
(٢) أي السماء.
(٣) حد السكين: اذا شحذها.
(٤) فرض الخبة: حزها.
(٥) كند الشيء: قطعه.

<<  <   >  >>