يحمل الكل محملا واحدا، فيقول: قد أباحه فلان وكرهه فلان. فنبدأ بالكلام في النصيحة للنفس والاخوان فنقول:
معلوم أن طباع الآدميين تتقارب ولا تكاد تتفاوت، فإذا ادعى الشاب السليم البدن والصحيح المزاج أن رؤية المستحسنات لا تزعجه ولا تؤثر عنده ولا تضره في دينه كذبناه لما نعلم من استواء الطباع، فإن ثبت صدقه عرفنا أن به مرضا خرج به عن حيز الاعتدال، فإن تعلل فقال: إنما أنظر إلى هذه المستحسنات معتبرا فأتعجب من حسن الصنعة في دعج (١) العينين، ورقة الأنف، ونقاء البياض، قلنا له: في أنواع المباحات ما يكفي في العبرة، ها هنا ميل طبعك يشغلك عن الفكرة ولا يدع لبلوغ شهوتك وجود فكرة. فإن ميل الطبع شاغل عن ذلك، وكذا من قال: إن هذا الغناء المطرب المزعج للطباع المحرك لها إلى العشق وحب الدنيا لا يؤثر عندي ولا يلفت قلبي إلى حب الدنيا الموصوفة فيه، فانا نكذبه الموضع اشتراك الطباع. ثم إن كان قلبه بالخوف من الله ﷿ غائبا عن الهوى لأحضر هذا المسموع الطبع، وإن كانت قد طالت غيبته في سفر الخوف. وأقبح القبيح البهرجة، ثم كيف تمر البهرجة على من يعلم السر وأخفى. ثم إن كان الأمر كما زعم هذا المتصوف فينبغي أن لا نبيحه إلا لمن هذه صفته، والقوم قد أباحوه على الأطلاق للشاب المبتدئ والصبي الجاهل حتى قال أبو حامد الغزالي: إن التشبيب بوصف الخدود، والأصداغ، وحسن القد، والقامة، وسائر أوصاف النساء الصحيح أنه لا يحرم.
قال المصنف ﵀: فأما من قال: إني لا أسمع الغناء للدنيا وإنما آخذ منه إشارات فهو يخطئ من وجهين: أحدهما - أن الطبع يسبق إلى مقصوده قبل أخذ الإشارات فيكون كمن قال: إني أنظر إلى هذه المرأة المستحسنة لا تفكر في الصنعة. والثاني - إنه يقل فيه وجود شيء يشار به إلى الخالق وقد جل الخالق ﵎ أن يقال في حقه أنه يعشق، ويقع الهيمان به. وإنما نصيبنا من معرفته الهيبة والتعظيم فقط وإذ قد انتهت النصيحة فنذكر ما قيل في الغناء.
فصل
أما مذهب أحمد ﵀، فإنه كان الغناء في زمانه انشاد قصائد.