للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتسريح لحيته ليرى أنه ما عنده من الدنيا خير. وهذا من أبواب الرياء، فان كان صادقا في إعراضه عن أغراضه كما قيل لداود الطائي: ألا تسرح لحيتك؟ فقال: إني عنها لمشغول فليسلم أنه سلك غير الجادة إذ ليست هذه طريقة الرسول ولا أصحابه، فانه كان يسرح شعره وينظر في المرآة ويدهن (١) ويتطيب وهد أشغل الخلق بالآخرة. وكان أبو بكر وعمر يخضبان بالحناء والكثم (٢) وهما أخوف الصحابة وأزهدهم. فمن أدعى رتبة تزيد على السنة وأفعال الأكابر لم يلتفت إليه

فصل

ومن الزهاد من يلزم الصمت الدائم وينفرد عن مخالطة أهله فيؤذيهم بقبح أخلاقه وزيادة انقباضه، وينسى قول النبي : «إن لأهلك عليك حقا (٣)» وقد كان رسول الله يمزح (٤) ويلاعب (٥) الأطفال ويحدث أزواجه (٦)، وسابق عائشة (٧) إلى غير ذلك من الأخلاق اللطيفة، فهذا المتزهد الجاعل زوجته كالآيم (٨) وولده كاليتيم لانفراده عنهم وقبح أخلاقه لأنه يرى أن ذلك يشغله عن الآخرة، ولا يدري لقلة علمه أن الانبساط إلى الأهل من العون على الآخرة، وفي «الصحيحين» أن النبي قال لجابر: «هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك». وربما غلب على هذا المتزهد التجفف فترك مباضعة (٩) الزوجة فيضيع فرضا بنافلة غير ممدوحة.

فصل

ومن الزهاد من يرى عمله فيعجبه فلو قيل له: أنت من أوتاد (١٠) الأرض


(١) في «الشمائل» للترمذي عن انس قال: «كان رسول الله يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته وعن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي أن النبي كان يترجل غبا، أي يسرح شعره يوما ويتركه يوما، وكان أنس بن مالك لا يرد الطيب. وقال أنس: أن النبي كان لا يرد الطيب. وقال أيضا: كان لرسول الله مسكة يتطيب بها، والمسكة: طيب أسود يخلط بالمسك.
(٢) الكثم: نبات يخصب به الشعر.
(٣) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب الصيام ولفظه: «وان لزوجك عليك حقا .. » الحديث.
(٤) في «الشمائل» للترمذي عن ابي هريرة قال: «قالوا يا رسول الله انك تداعبنا، قال: نعم، غير أني لا أقول الا حقا».
(٥) عن أنس قال: «إن رسول الله ليخالطنا حتى يقول لاخ لي: يا ابا عمير ما فعل النفير؟ قال أبو عيسى الترمذي: وفقه هذا الحديث أن النبي كان يمازح، وفيه أنه كنى غلاما صغيرا فقال له: يا أبا عمير. وفيه انه لا بأس أن يعطى الصبي الطير ليلعب به وانما قال له النبي يا ابا عمير ما فعل النفير؟ لانه كان له نفير يلعب به فمات فخزن الغلام عليه فمازحه النبي .
(٦) في «الشمائل» عن عائشة قالت: حدث رسول الله ذات ليلة نساءه حديثا فقالت احداهن كان الحديث حديث خرافة فقال: أتدرون ما خرافة ان خرافة كان رجلا من غدرة أسرته الجن في الجاهلية فمكث فيهم دهرا ثم ردوه الى الانس فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الاعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة.
(٧) رواه ابو داود والنسائي وابن ماجه، وسنده صحيح.
(٨) الايم: التي فقدت زوجها، ويطلق ايضا على الرجل الذي فقد زوجته.
(٩) أي اتيانها.
(١٠) اوتاد الارض: جبالها، واوتاد البلاد: رؤساؤها، ويزعمون أن هناك رجالا هم للارض كالاوتاد تقوم بهم.

<<  <   >  >>